04/02/2025 - 14:49

شعبويّة نتنياهو: ما وراء النصر الشامل

يتناول هذا المقال تحليلًا للشعبويّة الجديدة من خلال دراسة خطاب نتنياهو السياسيّ خلال الحرب الأخيرة على غزّة، حيث برز فيه بوضوح الاستقطاب الحادّ والتقسيم المانويّ بين الخير والشرّ، وبين من يُعتبَر جزءًا من الشعب ومن يُقصى خارجه...

شعبويّة نتنياهو: ما وراء النصر الشامل

(Getty)

تشهد الأوساط البحثيّة جدلًا محتدمًا حول تحديد ماهيّة الشعبويّة، ممّا يلقي بظلاله على فَهْم دلالات هذا المفهوم وتداعياته على المنظومة الديمقراطيّة الليبراليّة. ويشير الباحث السياسيّ نُوعَم ﭼـيدرون وعالِم الاجتماع بارت بونيكوﭬـسكي إلى أنّ إشكاليّة تعريف الشعبويّة تنبثق -وإنْ جزئيًّا- من توظيف هذا المصطلح لوصف طيف واسع من الظواهر السياسيّة، بما فيها الحركات والأحزاب والأيديولوجيّات والقيادات، وذلك ضمن سياقات متباينة جغرافيًّا وتاريخيًّا وفكريًّا. وَفْقًا لعالِم السياسة الهولنديّ المتخصّص في دراسة التطرُّف السياسيّ كاس مودي، وزميله كريستوبال روﭬـيرا كالتـﭬـاسر (باحث تشيليّ متخصّص في دراسة الشعبويّة)، الشعبويّة هي أيديولوجيا رقيقة (أو ضعيفة المركز) ترى أنّ المجتمع منقسم على نحوٍ أساسيّ إلى مجموعتين متجانستين ومتعارضتين: "الشعب النقيّ" مقابل "النخبة الفاسدة"، وتؤكّد أنّ السياسة ينبغي أن تكون تعبيرًا عن الإرادة العامّة للشعب. أمّا الباحث الألمانيّ يان-ﭬـيرنر مولر، فيعرّف الشعبويّة بأنّها تصوُّر أخلاقيّ خاصّ للسياسة وطريقة لإدراك العالَم السياسيّ، من خلاله يجري تصوير صراع بين شعبٍ نقيٍّ أخلاقيًّا وموحَّدٍ، ونُخَبٍ تُعتبَر فاسدة أو أقلّ أخلاقيّةً. يقدّم إرنستو لاكلاو، المنظِّر السياسيّ والفيلسوف الأرجنتينيّ البارز، تحليلًا للشعبويّة كإستراتيجيّة خطابيّة، مؤكِّدًا على ضرورتها للديمقراطيّة. طوّر لاكلاو، مع شريكته شانتال موف (وهي مفكّرة بلجيكيّة ومن أهمّ منظِّري ما بعد الماركسيّة والديمقراطيّة الراديكاليّة)، نظريّة الشعبويّة كمفهوم سياسيّ، وهو ما أسهَمَ في فَهْم الحركات السياسيّة المعاصرة وجاذبيّتها الجماهيريّة. يتمحور مفهوم لاكلاو للشعبويّة حول فكرة أنّ الممارَسات الخطابيّة تشكّل بناء الهُويّات السياسيّة وتعبئة الفاعلين السياسيّين. وبحسب رأيه، لا ترتبط الشعبويّة بأيديولوجيا محدَّدة، بل هي منطق سياسيّ قد تتبنّاه الحركات السياسيّة عبْر الطيف الأيديولوجيّ بأكمله.

الشعبويّة، بوصفها خطابًا يستثير مشاعر الجماهير، ليست ظاهرة مستحدَثة في الثقافة السياسيّة، بل هي جزء أصيل من الحياة السياسيّة منذ القِدم. فقد أدّت البلاغة دَوْرًا محوريًّا في السياسة القديمة، حيث اعتبرت مخاطَبة العواطف ("ﭘـاثوس") في البلاغة الكلاسيكيّة مُهِمّة بقدر أهمّيّة مخاطَبة العقل ("لوﭼـوس")، على نحوِ ما أشار أرسطو. وتؤكّد الدراسات الحديثة أنّ استمالة المشاعر لا تزال أداة خطابيّة رئيسيّة حتّى في السياسة المعاصرة، وهو ما يُبْرِز استمراريّة هذا النهج عبْر العصور.

أمّا في التاريخ المعاصر، فتشير العديد من الدراسات إلى أنّ الظهور الأوّل للخطاب الشعبويّ كان مع الحركة النارودنيّة في روسيا أواخر القرن التاسع عشر. كانت أيديولوجيا هذه الحركة، المعروفة باسم "نارودنيتشيستـﭬـو" (Narodnichestvo -وتُترجَم في المعتاد بـِ "الشعبويّة")، تقوم على تمجيد الفلّاحين واعتبار الجماعة الريفيّة نموذجًا سياسيًّا للدولة. كما دعا أنصار هذه الحركة إلى "الذهاب إلى الشعب" طلبًا للتوجيه السياسيّ.

الشعبويّة الجديدة، التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب، تميّزت عن سابقاتها من الشعبويّات الزراعيّة والاستبداديّة. تتّسم هذه الشعبويّة بمعارضتها الصريحة للمؤسَّسات السياسيّة التقليديّة، وأحيانًا تتّخذ موقفًا مناهضًا للسياسة بنفسها، وهي خاصّيّة تشترك فيها معظم الحركات الشعبويّة المعاصرة.

يتناول هذا المقال تحليلًا للشعبويّة الجديدة من خلال دراسة خطاب نتنياهو السياسيّ خلال الحرب الأخيرة على غزّة، حيث برز فيه بوضوح الاستقطاب الحادّ والتقسيم المانويّ بين الخير والشرّ، وبين من يُعتبَر جزءًا من الشعب ومن يُقصى خارجه.

إسرائيل والشعبويّة

لم تبدأ الشعبويّة في إسرائيل مع صعود نتنياهو إلى الحكم عام 1996، بل برزت مع التحوُّل السياسيّ الكبير عام 1977، المعروف بالعبريّة بـِ "مهپاخ"، كما يشير داني ﭬِـيلْك. هذا التحوُّل شهد وصول اليمين إلى السلطة لأوّل مرّة في تاريخ إسرائيل، مترافقًا مع ضعف في المؤسَّسات التقليديّة. الليكود، الذي قدّم نفسه على أنّه ممثّل "حقيقيّ" للشعب، سعى إلى خلق هَيْمَنة جديدة مقابل هَيْمَنة حزب مـﭘـاي (حزب العمل -لاحقًا) التي استمرّت طيلة عقود. واستغلّ الليكود مشاعر الإحباط والتهميش لدى اليهود الشرقيّين، الناتجة عن سياسات التمييز السابقة الممارَسة نحوهم، وسيلةً لكسب التأييد الشعبيّ والوصول إلى السلطة.

يشير ﭬـيلك إلى أنّ العَقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد تحوُّلًا في المجتمع الإسرائيليّ نحو الراديكاليّة، ولا سيّما بعد فوز نتنياهو في الانتخابات لفترات متتالية. أصبحت الائتلافات الحاكمة أكثر راديكاليّة في تركيبتها وخطابها وسياساتها. من أبرز هذه التحوُّلات كان تغيُّر حزب الليكود من حزب شعبويّ شموليّ ذي سِمات قوميّة إلى حزب شعبويّ يمينيّ راديكاليّ.

قدّم نتنياهو نفسه على أنّه ممثّل حصريّ لمصالح "الشعب"، مقابل تصوير المؤسَّسات الرسميّة والنُّخَب التقليديّة معاديةً لهذه المصالح. رمى نتنياهو، من خلال هذا الأسلوب، إلى إعادة تشكيل موازين القوى لصالحه، مستهدفًا الحدّ من نفوذ المؤسَّسات التي اعتبرها عائقًا أمام تنفيذ سياساته وترسيخ سلطته.

تشير ﭼـيل تالشير، الباحثة الإسرائيليّة في العلوم السياسيّة، إلى أنّ نموذج الحكم الذي يتبنّاه بنيامين نتنياهو في إسرائيل هو شكل فريد من الشعبويّة اليمينيّة. وَفقًا لتالشير، تنحرف هذه الشعبويّة عن مفاهيم الديمقراطيّة الليبراليّة التقليديّة، إذ تركّز على "الحَوْكَمة" (بالعبريّة: משילות) أكثر ممّا تركّز على حماية حقوق الإنسان. وتتمحور -في أساسِ ما تتمحور- في الأمن القوميّ والإصلاح الاقتصاديّ والتشريعات الدستوريّة، حيث تتميّز الشعبويّة في عهد نتنياهو بمزيج أيديولوجيّ يجمع بين الاقتصاد النيوليبراليّ والقوميّة المحافِظة الجديدة. هذا النهج، كما تشير تالشير، يسعى إلى إعادة تعريف "الشعب" على أُسُس عرقيّة-قوميّة، مع تقليص الحقوق الفرديّة والرقابة المؤسَّسيّة. وتَخْلص الباحثة إلى أنّ حكومة نتنياهو تستخدم هذا الخليط الأيديولوجيّ لإحداث تغيير جذريّ في النظام الدستوريّ الإسرائيليّ، مركِّزة السلطة تحت غطاء شعبويّ يدّعي تمثيل إرادة الشعب، وهو ما يشكّل من منظورها تحدّيًا كبيرًا لمبادئ الديمقراطيّة الليبراليّة والتعدُّديّة وحقوق الأقلّيّات في إسرائيل.

نتنياهو، الذي سعى منذ بداياته إلى تغيير النُّخَب في إسرائيل، ولا سيّما الأكاديميّة منها التي أسهمت في صياغة اتّفاقيّات أوسلو، نجح في إحداث تحوُّل في النُّخَب السياسيّة. فقد تمكّن من نقل شخصيّات كانت تُعَدّ على هامش المجتمع الإسرائيليّ (كإيتمار بِنْ ﭼـﭬـير وَبتْسِلْئيل سموطْريتْش -على سبيل المثال) إلى مراكز صنع القرار في الحكومة.

برزت شعبويّة نتنياهو على نحوٍ جليّ، خلال عدّة أزمات سياسيّة، مستغلًّا كلًّا منها لتعزيز موقفه وإعادة تشكيل مفهوم "الشعب" في إسرائيل كلّ مرّة من جديد، بدءًا من أزمة كورونا، التي حوّلها لصالحه سياسيًّا، وصولًا إلى محاكماته التي تحوّلت إلى منصّة لمهاجمة مؤسَّسات الدولة. نجح نتنياهو في توظيف هذه الأحداث لرسم صورة جديدة للصراع بين ما يعتبره "الشعب الحقيقيّ" وَ "أعدائه".

في هذا السياق، يكتسب المصطلَح "أعداء الشعب اليهوديّ" أهمّيّة خاصّة في خطاب نتنياهو الشعبويّ. فهو يستخدمه سلاحًا سياسيًّا، قارنًا إيّاه بالاتّهام بمعاداة الساميّة. وهكذا يصبح أيّ منتقِد لسياساته أو لمن يدّعي تمثيلهم عرضةً لهذا الاتّهام الخطير، وإن كان يهوديًّا. هذا الاستخدام للمصطلَح يخلق مُناخًا تَصعب فيه ممارسة النقد البنّاء أو المعارضة السياسيّة الشرعيّة، دون أن تُتّهَم بمعاداة الساميّة.

عبْر هذه الإستراتيجيّة الشعبويّة، نجح نتنياهو في تحويل كلّ أزمة إلى فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسيّ. فهو يتّهم الشرطة، ثمّ النيابةَ العامّة، وبالتالي المستشارَ القضائيَّ للحكومة والإعلامَ والأكاديميا والجيشَ؛ أي لم تَسْلم أيّ مؤسَّسة من هجومه المنهجيّ، مصوِّرًا إيّاها جزءًا من "النخبة" المعادية لـِ "الشعب الحقيقيّ" أو "إرادة الشعب" الذي يدّعي تمثيله.

شهدت إسرائيل في السنوات الخمس الأخيرة (2019-2024) حالة غير مسبوقة من عدم الاستقرار السياسيّ، تجلّت في إجراء خمس جولات انتخابيّة متتالية للكنيست. هذا التكرار الانتخابيّ غير المعتاد عكسَ صعوبةَ تشكيل حكومة مستقرّة، حتّى نجح بنيامين نتنياهو أخيرًا في تشكيل حكومة بعد انتخابات تشرين الثاني /نوﭬـمبر عام 2022. وهذه الحكومة (الحاليّة) هي الأكثر يمينيّة واستيطانيّة في تاريخ إسرائيل. وفي هذا السياق، تشير هُنَيْدة غانم في كتاب "اليمين الجديد في إسرائيل" إلى أنّه، من ناحية، يشكّل صعودُ أقصى اليمين الجديد إلى السلطة جزءًا من ظاهرة عالميّة ويتشارك معها ميزة تطبيع التطرُّف ومَرْكَزَته، ويتقاسم معها الأيديولوجيا القوميّةَ المتعصّبة والشعبويّة وكراهيَةَ الآخَر ومعاداةَ قِيَم الليبراليّة، ومن ناحية أخرى يتّخذ صعود اليمين الجديد بصِيَغِهِ المتنوّعة الخلاصيّة والقوميّة والشعبويّة مميّزاتٍ خاصّة بسبب السياق الاستعماريّ الاستيطانيّ، وينطوي على آثار وخيمة على الفلسطينيّين.

شَرَعت هذه الحكومة في إجراء ما وُصِف بـِ "الانقلاب الدستوريّ" الذي يرمي إلى تقييد وإضعاف الأجهزة والمؤسَّسات المسؤولة عن كبح جماح السلطتَيْن التنفيذيّة والتشريعيّة، وهو ما أثار أزمة سياسيّة حادّة في إسرائيل.

أدّت معارضة هذا الانقلاب الدستوريّ إلى تعميق الشرخ التاريخيّ بين الأشكناز واليهود الشرقيّين في إسرائيل. ويدّعي الشعْبَوِيّون في السلطة أنّ هذا الإجراء ديمقراطيّ، ويمثّل إرادة الشعب، مستندين إلى التعريف الأبسط للديمقراطيّة بأنّها تعبير عن إرادة الأغلبيّة. يشير عزمي بشارة، في كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبويّة؟"، إلى أنّ الديمقراطيّات التي لم تمرّ بمرحلة ليبراليّة كانت أشدّ هشاشةً وأقلّ مقاوَمةً للخطاب الشعبويّ ومَضارّه. وهذه هي حالة الدول التي انتقلت إلى الديمقراطيّة الشاملة دون اجتياز مرحلة ليبراليّة سابقة على تعميم حقّ الاقتراع. ففيها يمكن أن تتعرّض الحرّيّات المدنيّة إلى خطر حقيقيّ مع رفع الشعبويّة قيمة المشارَكة السياسيّة وحكم الأغلبيّة فوق قيمة الحرّيّات.

يُبرِز هذا الوضع أيضًا التوتُّر المستمرّ بين الديمقراطيّة الإجرائيّة والليبراليّة، وهو توتُّر بارز في الأنظمة التي لم تمرّ في سيرورة ليبراليّة حقيقيّة كإسرائيل، وبخاصّة في ظلّ كونها أصلًا ديمقراطيّة حصريّة لفئة معيَّنة واحدة فقط هي اليهود ويعيش فيها الفلسطينيّون مواطَنة هامشيّة وعَرَضيّة داخل الخطّ الأخضر، بينما تقوم إسرائيل بممارسة نظام أﭘـارتهايد في المناطق التي احتلّتها عام 1967 والتي يعيش فيها ما يربو على خمسة ملايين ونصف مليون فلسطينيّ.

الحرب على غزّة وترسيخ سياسة الشعبويّة:

رسّخت الحرب الراهنة على غزّة مظاهر الشعبويّة في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو. فمنذ بداياته السياسيّة، تبنّى نتنياهو خطابًا شعبويًّا، مصوِّرًا الفلسطينيّين عدوًّا وتهديدًا للشعب اليهوديّ. وفي سياق الحرب الحاليّة على قِطاع غزّة، استمرّ في توظيف هذا الخطاب لتبرير العدوان على القِطاع، مقدِّمًا إيّاه على أنّه دفاع عن الشعب اليهوديّ الذي يدّعي تمثيله حصريًّا.

نتنياهو، الذي تميّز بإدارته للأزمات السياسيّة الداخليّة والخارجيّة باستخدام السياسة الشعبويّة، وَجَد في هذه الحرب فرصة لتعزيز صورته كحامٍ للأمّة اليهوديّة في مواجَهة ما يصوّره على أنّه تهديد وجوديّ. هذا النهج الشعبويّ لا يقتصر على تصوير الصراع مع الفلسطينيّين فحسب، بل يمتدّ ليشمل معارضيه السياسيّين داخل إسرائيل، حيث يصوّرهم كمتواطئين مع "الأعداء" أو غير مدركين لحجم التهديد.

في الحرب الأخيرة على غزّة، تتجلّى سِمَة بارزة من الخطاب الشعبويّ لنتنياهو، تتجلّى في تقسيمه الحادّ للعالَم بين قطبَيِ "الخير" وَ "الشرّ" وما يصفه بالحضارة والبربريّة. ويتجسّد هذا النهج في شعار "النصر الشامل" الذي يرفعه منذ اندلاع الحرب. ولعلّ خطابه الأخير في الكونـﭼـرس في الولايات المتّحدة، في الـ 24 من تمّوز /يوليو عام 2024، يمثّل ذروة هذا الخطاب، إذ وسّع فيه رؤيته الثنائيّة ليصوّر بحسبها العالَمَ الأمريكيّ والأوروﭘـيّ محورًا للخير، في مقابل محور الشرّ الذي يضمّ -من وجهة نظره- كلّ دولة أو فئة أو مؤسَّسة لا تقف إلى جانب إسرائيل. وهكذا تحوّلت رؤية نتنياهو من صراع محلّيّ بين "اليهوديّ الطيّب" وَ "الفلسطينيّ الإرهابيّ" إلى معركة كونيّة، إذ رسم خطًّا فاصلًا يقسم العالَمَ بأَسْره إلى معسكرَيْن: أنصار إسرائيل المنيرين، مقابل أعدائها المتوحّشين.

ويُعَدّ خطاب نتنياهو في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، في الـ 27 من أيلول /سـﭘـتمبر (2024)، من أكثر خطاباته الشعبويّة تطرُّفًا؛ إذ فيه قدّم قائمة من الأعداء "الأشرار" الذين يزعم أنّهم يهدّدون وجود إسرائيل. بدأ نتنياهو بادّعاء امتلاكه "الحقيقة المطْلَقة" وتصويره إسرائيل دولةً ساعية إلى السلام في مواجَهة "أعداء متوحّشين". هذه الثنائيّة بين الخير المطلَق والشرّ المطلَق شكّلت محورًا أساسيًّا في خطابه مجدَّدًا، معزِّزًا إيّاها باستخدام الرواية الدينيّة التوراتيّة؛ فقد استشهد بأقوال النبيّ موسى، قائلًا: "إنّنا نواجه الاختيار الخالد نفسه الذي وضعه موسى أمام شعب إسرائيل قبل آلاف السنين [...] لقد أخبرنا موسى أنّ أفعالنا سوف تحدّد ما إذا كنّا سنورِّث للأجيال القادمة نعمةً أَمْ نقمةً".

استخدم نتنياهو "خارطة اللعنة" وَ "خارطة النعمة" لرسم حدود جغرافيّة بين الخيرّ والشرّ، واصفًا إحداهما بأنّها تمثّل "قوس الإرهاب" الذي خلقته إيران. وعدَّدَ أعداءً آخَرين مثل حماس وحزب الله واليمن.

ضمن قائمة ما يعتبره نتنياهو أعداء للأمّة والشعب اليهوديّ، انتقد بشدّةٍ المؤسَّساتِ الدوليّةَ، وخاصّة الأمم المتّحدة، واصفًا إيّاها بـِ "بيت الظلام" ومتّهِمًا إيّاها بمعاداة الساميّة. صوّر نتنياهو إسرائيل ضحيّة للظلم العالميّ، مشيرًا إلى كثرة القرارات الصادرة ضدّها في الأمم المتّحدة. هذا التصوير الذاتيّ كضحيّة يُعَدّ من الإستراتيجيّات الشائعة في الخطاب الشعبويّ، إذ يُستخدم لتعبئة الدعم الشعبيّ وتبرير السياسات المتّبَعة. في هذا السياق، يمكن النظر إلى هذا الخطاب كمحاولة لتبرير حرب الإبادة في غزّة.

وعلى الصعيد الداخليّ، يسعى نتنياهو من خلال هذا الأسلوب إلى توحيد صفوف مؤيّديه، وتعزيز شرعيّته وقوّته السياسيّة، وحَرْف الانتباه عن التحدّيات الداخليّة والقضايا القانونيّة التي يواجهها. وبذلك، تصبح الحرب على غزّة أداة سياسيّة في يد نتنياهو لترسيخ سلطته وتعزيز خطابه الشعبويّ. فقد أحدثت الحرب على غزّة بعد السابع من تشرين الأوّل /أكتوبر (2023) انتقالًا في السياسة الشعبويّة الإسرائيليّة نحو شعبويّة قوميّة أكثر تطرُّفًا. بدأ هذا التحوُّل بتصعيد الخطاب ضدّ الفلسطينيّين بصورة عامّة، متجاوزًا حدود غزّة ليشمل الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة والداخل الإسرائيليّ، ولا تقتصر ممارَسته على نتنياهو فحسب، بل تتجاوزه إلى زمرته الحاكمة وداعميه. فقد شهدنا سلسلة من الملاحَقات والاعتقالات للعديد من الطلبة الجامعيّين والأكاديميّين والمحامين والفنّانين، عربًا ويهودًا، ممّن انتقدوا الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة. هذه الملاحَقات لم يقتصر مَصدرها على الشرطة، بل تشمل كذلك مواطنين من اليمين المتطرّف ممّن هاجموا مواطنين عربًا أو يهودًا عارضوا أو انتقدوا هذه الحرب.

الكاﭘـيتول في إسرائيل

في الـ 29 من تمّوز /يوليو المنصرم (2024)، شهدت إسرائيل حدثًا شبيهًا باقتحام مبنى الكاﭘـيتول في الولايات المتّحدة في الـ 6 من كانون الثاني /يناير عام 2021. فبعد أن داهمت الشرطة العسكريّة الإسرائيليّة منشأة الاعتقال "سْدِيهْ تِيمانْ"، حيث يُحتجز معتقلون من قِطاع غزّة منذ بداية الحرب، وجرى توقيف تسعة جنود إسرائيليّين للاشتباه بتورُّطهم في ممارَسة تعذيب جنسيّ شديد لأحد المعتقَلين الفلسطينيّين، قام أنصار اليمين المتطرّف، بمن فيهم أعضاء كنيست، باقتحام منشآت عسكريّة احتجاجًا على هذا الإجراء. لاحقًا، انتقلت المحاولات إلى قاعدة "بِيتْ لِيدْ" حيث جرى نقل الجنود التسعة للتحقيق. هناك، اقتحم أنصار اليمين، بمن فيهم جنود ملثَّمون ومستوطنون، القاعدة التي تضمّ مقرّ المحكمة العسكريّة التابعة للجيش الإسرائيليّ.

خاتمة

يعكس هذا التحوُّل في الخطاب إستراتيجيّة ذات شَقَّيْن: توحيد الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة من خلال تحديد "عدوّ مشترَك"، والتصدّي للانتقادات والمساءَلة القانونيّة الدوليّة لممارَسات إسرائيل. من خلال هذا النهج، يسعى نتنياهو إلى تقديم نفسه ممثِّلًا للقِيَم التي يراها إيجابيّة أو قِيَم "الخير"، موسِّعًا نطاق خطابه ليتجاوز حدود إسرائيل ويشمل المجتمع الدوليّ. وهو يصوّر نفسه مُدافعًا عن القِيَم العالميّة الليبراليّة، ساعيًا إلى تحقيق ما يصفه بـِ "النصر الشامل" للخير الشامل في مواجهة ما يعتبره تهديدًا. هذا الأسلوب في الخطاب يعكس استخدامًا جديدًا للشعبويّة يتيح له تشكيلَ الرأي العامّ المحلّيّ والدوليّ من جديد، وفرصةً لمواجَهة ما يصفه بـِ "محور الشرّ" دونما تعرُّض للمساءَلة والمحاسَبة من أحد.


* نُشر المقال في مجلّة "جدل" التابعة لمدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة

التعليقات