05/03/2021 - 14:30

من الأزمات إلى الاحتمالات: القيادات النِّسويّة الفلسطينيّة الميدانيّة خلال الجائحة

رغم الوضع المُريع إلّا أنّنا رأينا قوّة الكوادرالنسائية؛ فقد قامت ناشطات وقياديّات فلسطينيّات في مُجتمعاتهنّ المحلية بتحمّل وزر التحديات وأظهرنَ قدرًا استثنائيًّا من الروح القياديّة والمبادَرة. وقد شكّلت هذه الأزمة نقطة تحوُّل

من الأزمات إلى الاحتمالات: القيادات النِّسويّة الفلسطينيّة الميدانيّة خلال الجائحة

لقد أظهرت جائحة كورونا واقع العنف الجندريّ بما لا يترك مجالًا للشّكّ. وقد شهدنا في "كيان" كيف جرى تجاهل وإهمال النّساء على كلّ المستويات، الأمر الذي أدّى إلى استفحال العنف الجندريّ الناجم عن التحيّز الجنسانيّ والبطريركيّة المُتأصّليْن. وأبرزت جائحة كورونا الوَهن القائم في المُجتمعات والحُكومات على حدّ سواء، في كلّ ما يخصّ مكافحة العنف الجندريّ، إلى جانب تأثير هذه الجائحة على بعض إنجازاتنا التي حقّقناها حتّى الآن في المعركة على المساواة الجندريّة. مع ذلك، فإنّ الأمل ما يزال ماثلًا أمامنا حتّى في أثناء الأزمات، فعلى مدى السّنة المُنصرمة، كُنّا شاهداتٍ على القدرات الحقيقيّة وعلى قوّة النساء الفلسطينيّات الفاعلات على المستوى الجماهيري. إذ أنّ عمل "كيان" في الميدان يرتكّز إلى 100 امرأة ضمن 12 مجموعة نسائيّة محليّة في مناطق عربيّة فلسطينيّة تنتشر في كلّ أرجاء المجتمع العربيّ، اللاتي شاركنَ في مسارات تعزيز مُكّثفة أهّلتهنّ ليَكُنَّ ناشطاتٍ اجتماعيّات قائدات للتغيير. وجرت هذه المسارات بريادة مُنتدى "جُسور" الذي يتألّف من 25 ناشطة قياديّة فلسطينيّة يُمثّلنَ المجموعات المحليّة. وعمل منتدى "جُسور" بمعيّة المجموعات المحليّة على تنظيم مجتمعاتهنّ المحليّة من أجل قيادة تدابير الطوارئ التي ضمنتْ عدم التخلّي عن أيّ امرأةٍ بحاجة لمساعدة.

عند ’اندلاع’ جائحة كورونا السّنة الفائتة، شخّصنا على الفور ما أنتجته من أزمتيْ عُنف متوازيّتيْن ضدّ النساء الفلسطينيّات. وقد شهدنا زيادةً بنسبة 40% في حالات العنف الجندريّ التي وصلت إلى "كيان" ومنظمات نسويّة عربيّة فلسطينيّة أخرى في إسرائيل. فالإغلاقات التي فُرضتْ في أعقاب الجائحة أدّت إلى فرض تقييدات جسيمة على قدرة النساء على الإفلات من العنف المنزليّ، بسبب قطع العلاقات بينهنّ وبين الأصدقاء والصديقات أو أفراد العائلة في المنازل الأخرى. ورأينا كيف اكتظّت الملاجئ بشكل متسارع لدرجة أنّها بدأت تواجه تقييدات ومحدوديّات كبيرة في الميزانيّات والقدرات. ومع أنّنا كُنّا نأمل أن تدفع هذه الظروف صوب تنبيه أصحاب المناصب النافذين، إلّا أنّ أحدًا لم يُبادر إلى تدابير جديّة لمواجهة هذه الوضعيّة، لا الحكومة، ولا الشرطة، ولا مكاتب الشؤون الاجتماعيّة. وعوضًا عن ذلك، رأينا أنّ مؤسّسات الدّولة الرسميّة، مثل وزارة الشؤون الاجتماعيّة والشّرطة المسؤولتيْن قانونيًّا عن محاربة العنف الجندريّ، أبدت عُزوفًا فوق المعتاد عن التعامل مع سلامة النّساء بشكل جدّيّ، فيما أدّى قصر نظرها إلى حصر اهتمامها في التدابير الخاصّة بجائحة كورونا فقط.

ما السّبب إذًا؟ لقد كانت "كيان" مُدركة طيلة الوقت لواقع حياة النساء المُعاش، وعملت على محاربته: فالنساء واجهنَ دائمًا العنف الجندريّ بكلّ أنواعه، وبكّلّ مستوياته. ما فعلته الجائحة هو أنّها أبرزت وعزّزت هذه المشكلة، إذ أنّ النساء الفلسطينيّات في إسرائيل يُناورنَ في داخل بيئة اجتماعيّة- سياسيّة مُركّبة ويشتبكنَ مع أصناف متداخلة من القمع؛ بكوْنهنّ جزءًا من أقليّة مُهمَّشة في دولة يهوديّة تمييزيّة، وبكونهنّ نساءً ضمن مجتمع بطريركيّ. ويتغاضى هذا المجتمع عن العنف بغية السّيطرة على النّساء، فيما تمارس دولة إسرائيل سياسة مُمنهَجة لتفادي ممارسة مسؤوليّتها أمام المواطنين العرب الفلسطينيّين. وعند اندلاع الجائحة كان من المُرجّح أن تكون النّساء ضمن مجموعات هشّة على المستوى الاقتصاديّ والمجتمعيّ، مثل الأمّهات الأحاديّات وعاملات النظافة في البيوت.

وأدّت الأدوار النمطيّة الجندريّة المَنوطة بالنّساء إلى دفعهنّ لمواجهة الضغوطات لزيادة مجهودهنّ في توفير العناية للآخرين، مع مصادر أقلّ من السّابق، وذلك بعد أن أُجبِرتْ عائلات بأكملها على البقاء في المنازل وخسارة مداخيلها. وبصفتهنّ مُقدّمات الرعاية الأساسيّات، فقد تحمّلت النساء إلى جانب ذلك غالبيّة الأعباء العاطفيّة والنفسانيّة التي سبّبتها هذه الأزمة. وأسهمت الضغوطات الاقتصاديّة في زيادة مستويات العنف المنزليّ والإساءة العاطفيّة، فيما كانت الكثير من النّساء عاجزات عن المغادرة لأسباب مُتعدّدة، بما فيها انعدام توفر الأماكن في الملاجئ، وانعدام الموارد الاقتصاديّة والدّعم العائليّ والمُجتمعيّ، إلى جانب المعايير المجتمعيّة التي تُخرِس النّساء.

ورغم الوضع المُريع إلّا أنّنا رأينا قوّة الكوادرالنسائية؛ فقد قامت ناشطات وقياديّات فلسطينيّات في مُجتمعاتهنّ المحلية بتحمّل وزر التحديات وأظهرنَ قدرًا استثنائيًّا من الروح القياديّة والمبادَرة. وقد شكّلت هذه الأزمة نقطة تحوُّل أمام هؤلاء النساء الناشطات شعبيًّا، اللاتي كُنَّ أنشأنَ سلفًا شبكة قويّة، ومُعزَّزة، وذات علاقات وأواصر راسخة على المستوى المحليّ. لقد كانت هذه هي اللحظة المُواتية للمزيد من الاستثمار في دعمهنّ لتنظيم أنفسهنّ على وجه السّرعة، بغية إجراء تقييمات للاحتياجات المُجتمعيّة عامة وللنساء تحديدا، وبناء وتوسيع الشّراكات، وريادة تدابير الطّوارئ ذات الحساسية الجندريّة.

ولم يكن بالإمكان إحداث تغييرات كبيرة في حياة النساء، وخصوصًا في أوقات الأزمات، من دون تبنّي توجّه العمل التّصاعديّ من القاعدة إلى الأعلى؛ فمن الجليّ والبائن أنّ لا أحد آخر قادرٌ على التمتّع بهذا المنظور الشّامل ذي الحساسيّة الجندريّة. لقد مَوْضَعْنَ أنفسهنّ كشخصيّات موثوقة تقوم برفع الوعي حول أزمة العنف المتوازية، وضمان إطلاع النساء على المُستجدّات وتشجيعهنّ على استغلال الموارد المُتاحة والانتفاع بها، مثل خط الدعم الذي تديره "كيان". وأفضت شبكة علاقات القياديّات للوصول إلى نساء لم يكن بوسعهنّ تلقي المعلومات أو الموارد بطريقة أخرى، ويُسمّيْن عادةً "النساء الشفّافات"، ومن ضمنهنّ الأمهات الأحاديّات، وعاملات النظافة في البيوت، والنّساء المُسنّات، والنّساء ذوات المحدوديّات.

نحن نرى أنّ مفتاح النجاح يكمن في حقيقة أنّ النساء الناشطات راسخاتٌ في مجتمعاتهنّ المحليّة، وأنّهنّ قادرات على تبصُّر الفوارق والتفاصيل الدّقيقة التي تعجز المنظّمات والمؤسّسات عن إدراكها من الخارج. يُضاف إلى ذلك أنّ غالبيّة الأبحاث المؤسّساتيّة التي أُجريتْ حول مسألة النساء في جائحة الكورونا، أهملت إدراج وجهات النظر الخاصّة بالنّساء نفسها حول الأزمة، ولم تُوْلِ الاعتبار لقوّة الناشطات المجتمعيّات الفاعلات في داخل مجتمعاتهنّ المحليّة، إلى جانب أنّها أخفقت في إبراز أصوات وقصص النّساء الخاصّة. في المقابل، فإنّ نشاط النساء الشعبيّ ضمِنَ عدم التعامل مع المجموعات الهشّة على أنّهنّ غير مرئيّات، وعدم ترك النساء ليُعانيْنَ وحدهنّ بصمت. صحيح أنّ هذه السّنة المنصرمة كانت صعبة، إلّا أنّ الروح القياديّة التي تحلّت بها النساء الفلسطينيّات ضمن العمل الجماهيري الميداني، تمنحنا القدرة على التحلّي بالأمل بتحقيق مستقبل أكثر عدلًا ومساواةً لجميع النّساء.


*رفاه عنبتاوي: المديرة العامّة لتنظيم "كيان النِّسويّ، الذي أسّسته في حيفا عام 1998 مجموعةٌ من الناشطات النّسويات الفلسطينيّات، لدفع مكانة النساء الفلسطينيّات في إسرائيل والقضاء على التمييز الجندريّ. ومن أهمّ المشاريع التي يعمل عليها تنظيم "كيان" منذ عشرين عامًا، مكافحة ومنع العنف الجندريّ عبر العمل الشعبيّ واعتماد منهج التنظيم المجتمعيّ وتطوير القيادات النّسائيّة.

التعليقات