تدين قرية كفرمندا بصمود أهلها في يوم "الصمود"، أو ما عُرف بلسان العامة يوم "أوري". في ذاك العام، يوم 13.12.1954، حضر المدعو أوري طهون من إدارة شركة طاهل، وهي شركة تعنى بمياه الشرب في تلك الأيام، لتنفيذ القرار الحكومي آنذاك لتحويل سهل البطوف إلى مجمع مياه كبير. كان هذا المشروع يتطلب إجلاء قرية كفرمندا وتعويض سكانها ببعض المال.
ولكي يتم تنفيذ القرار، كان لا بد من الحصول على موافقة قيادة البلدة ومختارها، محمود عبد الحليم، الذي أبى ورفض المخطط وتصدى له مع عائلته وأقاربه، بل وكفرمندا بأسرها. ورغم أن تلك الفترة كانت قريبة العهد بالنكبة، إلا أن أهالي كفرمندا فضلوا المواجهة والصمود ورفضوا مخططات الترحيل. ودارت اشتباكات مع قوات الشرطة، وتم اعتقال ما لا يقل عن 100 شاب يومها، من بينهم المختار محمود عبد الحليم. بفضل هذا الصمود، أحبط أهالي كفرمندا مشروع إجلاء البلدة من مكانها ومصادرة سهل البطوف لصالح تحويله إلى مجمع كبير لمياه الشرب والري الزراعي لإحياء الزراعة في منطقة النقب.
ورغم أهمية يوم الصمود التاريخية، لا تكاد تجد شابًا في كفرمندا يعرف الكثير عن هذا اليوم أو حتى بعض المعلومات الأساسية. خلال جولة ميدانية أجراها موقع "عرب 48" اليوم في كفرمندا، كانت بعض الإجابات أن "ربما هو يوم هبة الأقصى"، وآخرون أجابوا بأنه "يجب سؤال معلم جغرافيا"، بينما قال البعض الآخر إنه "يوم عيد". هكذا كانت إجابات الشباب في كفرمندا حول أسئلة "عرب 48" عن يوم الصمود أو يوم أوري.
لم يقم المجلس المحلي في كفرمندا بتنظيم أي نشاط رسمي يُذكر لإحياء الذكرى السبعين ليوم الصمود، رغم أهمية هذا اليوم في تاريخ البلدة وما يحمله من معانٍ عميقة تتعلق بالتمسك بالأرض والهوية. ورغم وجود لوحة كبيرة في الطابق الثاني من مبنى المجلس المحلي تقدم شرحًا وافيًا ورسالة موثقة من مخاتير كفرمندا والقرى المجاورة تُظهر رفضهم لقرار مصادرة أراضي البطوف عام 1954، إلا أن غياب الأنشطة الرسمية الموجهة لترسيخ قيم الصمود لدى الجيل الشاب واستثمار هذا اليوم لتعزيز الهوية الجماعية المحلية يُعد أمرًا جديرًا بالاهتمام.
ومع ذلك، يُذكر أن إدارة المجلس المحلي في كفرمندا بذلت جهدًا في الذكرى الستين ليوم "أوري"، حيث نتج عن هذه الجهود إصدار كتاب خاص بتمويل من المجلس المحلي آنذاك، بفضل مبادرة رئيس المجلس الأسبق، طه عبد الحليم. هذا الجهد السابق يُبرز أهمية المبادرات الرسمية ودورها في الحفاظ على الذاكرة الجماعية وتعزيز ارتباط الأجيال بالقضايا الوطنية.
ويقول صالح محمود عبد الحليم، نجل المختار في تلك السنوات، الذي يُنسب له التصدي لمشروع ترحيل كفرمندا ومصادرة البطوف، أو كما وصفه محاميه حينها: "هو الصخرة الصامدة في جبل الديدبة حارس البطوف، وإذا انهارت، انهار معها كل شيء"، يقول في حديثه لـ"عرب 48":
"كنت طفلًا صغيرًا يومها. في البداية، كانت هناك زيارات عديدة رسمية وغير رسمية لرجال السلطة في محاولة لإقناع والدي بالتخلي عن بيته وأرضه والحصول على ضعفها في مكان آخر. لكن والدي رفض ذلك رفضًا قاطعًا، وقال: 'لن أستبدل بيتي وأرضي بأي مكان، ولا أريد مالًا ولا تعويضًا، وسأبقى في بيتي مهما حصل'.
وفي يوم 13.12.1954، وصلت مجموعة من شركة المياه في حينه مع مساحين للبيوت برفقة دورية شرطة، وحاولوا الدخول عنوة إلى بيت والدي لإجراء مسح وقياس للبيت. تصدى لهم والدي مطالبًا بقرار محكمة يسمح لهم بالدخول. عندها، أشهر قائد الشرطة مسدسه تجاه والدي، لكنه قال: 'ما بنطلع من البلد وفينا روح. إن بدك تقتل، اقتلني'. وهكذا اندلعت المواجهات مع الشرطة، واعتُقل من أقاربنا المقربين ما لا يقل عن 22 شخصًا. كما اندلعت مواجهات في البلدة اعتقل على إثرها كثيرون".
وأضاف: "استمرت محاكمة أبناء عائلتنا سنة كاملة، وحُكم علينا بأحكام مختلفة بالسجن لثلاثة أشهر، إلا والدي المختار، الذي حكموا عليه حينها بالسجن تسعة أشهر، لأنه رفض طلب الرحمة من القضاة، قائلًا: 'إنما أشكو بثي وحزني إلى الله'".
وقالت عضو المكتب السياسي في التجمع، دعاء حوش طاطور: "إن إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة تعلّمت جيدًا من تاريخ المواجهة مع الفلسطينيين في الداخل، ومن ضمنها المواجهة مع أهالي قرية كفرمندا في يوم أوري. حيث فهمت أن سلب الأرض ومحاولة تهويدها وإخراج أهلها منها بقوة السلاح فشل دومًا. لكن هذا لا يعني أن إسرائيل تخلّت عن أيديولوجيتها الاقتلاعية. فهي تحاول اليوم أيضًا، بعد سبعين عامًا من يوم أوري، اقتلاع السكان الأصليين من بلادهم بالتضييق المستمر عليهم، بالعنصرية والتهميش، بالإفقار، وإغراق الناس في عالم الجريمة".
وأضافت: "كل هذا أصبح هو سلاح إسرائيل في مواجهتنا، وأداتها للتسلل إلى وعي الجيل الشاب لإفقاده معنى الوجود في بلده وارتباطه بالأرض". وختمت قائلة: "تقع علينا ضرورة فهم التاريخ وأدواته جيدًا، ليتسنى لنا فهم الحاضر وأدواته أيضًا، ونقله الحثيث للأجيال. ومن ضمنها إصرار إسرائيل على تهجيرنا 'الناعم' الذي لم تتخلَّ يومًا عن حلم تطبيقه".
وقال محمد فضل عالم، أحد أعضاء الفريق الذي عمل على إعداد كتاب "صمود" الصادر عن المجلس المحلي، في حديثه لموقع "عرب 48": "مع الأسف، لا نرى ولا نلاحظ اهتمامًا كافيًا هذه الأيام في إحياء هذه الذكرى، خاصة لدى الشباب. هذه الذكرى جديرة بأن يتم إحياؤها وتعليمها للأجيال الناشئة في كفرمندا، لأنها جزء هام وفصل هام من فصول الصمود في كفرمندا".
أما جهاد شناوي، أحد سكان القرية ممن عايشوا تلك الفترة، فقال: "كنت في حينها صغيرًا، ولكني أذكر هذه الأحداث، خاصة اعتقال أعمامي ياسين وعلي. هذه الأحداث يذكرها بطبيعة الحال كبار السن، ولكن معظم الشباب لا يعرف الكثير عنها".
وقالت مديرة وحدة الصحة في مجلس كفرمندا، عبير زيدان، في حديثها لموقع "عرب 48":
"إن يوم الصمود هو ذكرى خالدة نفتخر بها في كفرمندا. فهو دلالة كبيرة على أهمية الصمود ورسوخ أهلنا وأجدادنا في أراضيهم. بل هي شجاعة منقطعة النظير أدت في نهاية المطاف إلى الحفاظ على الأراضي في مرج البطوف. إنها ذكرى يجب أن تكون خالدة لأجيال كفرمندا الناشئة، ويجب إحياؤها سنويًا وترسيخها كذكرى مقدسة لدى الأجيال القادمة. لأن صمود أجدادنا يستحق الاحترام والتبجيل. بل إننا اليوم على أرضنا وفي بلدنا بفضل تضحية الأجداد في يوم الصمود".
التعليقات