ما بين بنطال الجينز والقمباز في الناصرة، مسيرة زمنية ليست بالطويلة، هي المدينة التي شهدت تاريخًا حافلاً منذ آلافِ السنين كونها جزء من بلاد الشام، ها هي بحزنِ موروثها على أهلِها، قد ودّعت كل صانعي القمباز، الزيّ الفلسطينيّ الأصليّ للرجل، ولم يبقَ منهم سوى صانع واحد في البلدة القديمة، هو شوقي نعرة... لم تعد هذه المهنة تكفيه لسدّ لقمة عيشه.
القمباز والحرير
لامست النّاصرة الأصالةَ العربيّة لبلاد الشّام في مناحٍ مختلفة من الحياة، وبهذا كان القمباز منذ مدّةٍ ليست بالطويلة، اللباس العصريّ آنذاك، بقماشه الثمين، بعضه من الحرير والنشاء، وبأنواعٍ مختلفة ومتنوعة، ولكن ما عاد القمباز اليوم يُصنع في الدّاخل الفلسطينيّ، إلا نادرا، وذلكَ لقلّة الإقبالِ عليه، وفي هذا يقول نعرة، لـ'عرب 48'، إنّه اضطر للعمل كسائق باص إضافةً لصناعة القمباز، لأنّ هذه المهنة انتهى عهدها، كما وصفها، بحسرة وألم.
وفي مخيطةٍ قديمة جدّا تقبعُ في لُبِّ سوق النّاصرة، كان المحلّ يعجّ بالنّاس الآتين لـ'تخييط القنابيز'، كل منهم بحسب مقاسه، وكان السوق يحتوي على عدد من المحال والمخايط تقدر بأربعة، وكان يُفصّل نعرة ووالده كل يوم ما بين 20 إلى 25 قمبازا، كانوا يأتون من قرى المثلث وهضبة الجولان السوري المحتل والجليل، أما اليوم فيفصّل قمبازين في الأسبوع، وثلاثة كحدّ أعلى.
تعلّم نعرة مهنة الخياطة عن أبيه عام 1980، كان والده قد تعلّم هذه المهنة في حيفا على يد صانع يدعى حسين الطيراوي، وبقي نعرة الأبن صامدًا في وجه هذا التغيّر الذي طرأ على مهنته، وبقي يزاول هذه المهنة وحيدًا في يومنا هذا، ويفيد نعرة أنّه قبل خمسين عامًا كان من العيب ألا يرتدي الرجل القمباز، ولكن مع قيام 'إسرائيل' بدأ هناك تغيّر في العادات.
كان القمباز هو اللباس العربيّ المسيطر، ومن ارتدى غيره من الملبس أشاروا إليه بالبنان كوصمةِ عار، وقبل حوالي ثلاثين عامًا، بقي القمباز صامدًا في الداخل الفلسطينيّ، وخاصةً لدى العائلات ذات المكانة الاجتماعيّة المرموقة، ورؤساء المجالس المحلية والوجهاء وجاهات الصلح، إلى حين أن تغيّر نمط الحياة وأطاح البنطال بالقمباز.
نهج حياة
في الأصل، كان القمباز شائعًا في بلاد الشامِ جميعها، كان موحدًا لأهلها، رغمَ أنّه اختلف بحسب الطبقة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي كان ينتمي لها الفرد، فالفقراء ارتدوا قمباز الديما أو القباقيبو، أما الأغنياء قليلاً فارتدوا قمباز الحرير البناتيّ، بينما ارتدى أبناء الطبقات العليا والأثرياء قمباز الغباني.
وذكر نعرة أنّ القمباز هو اللباس الفلسطينيّ الأصيل، مع 'الشروال' والعباءة واعتمار الكوفية والعقال، ولكنّه اليوم اندحر بعدما أطيح به، رغم صناعته المتقنة التي تستغرق أيامًا، وهناك عدّة أنواع من الأقمشة التي يصنع منها القمباز، كقماش النباتي، وهو من الحرير والنشاء بنسبة 40%، ويجب أن يمكث النباتي في الماء ما بين 24-48 ساعة قبل الخياطة، لأنّه يخسر من طوله 30% بعد تغطيسه بالماء، لنقومَ بعدها بتجفيفه وكيّه وتفصيله كما يُفصّل القماش العاديّ، وهذا النوع من القماش ارتداه البعض للتباهي، وكان يُرتدى في للمناسبات وهو باهظ الثمن.
وبالرغم من أنّ القمباز للرجال، إلّا أنّ النساء ارتدت القمباز كذلك، وهو قمباز يختلف عن قمباز الرجل، ترتدي المرأة تحته سروالا، وكان مصممًا بطريقة يبرز من خلالها جمال المرأة، وفي النّاصرة ارتدى أبناء المدينة القمباز على حدٍ سواء دون فرق.
وعن أهالي النّاصرة، فإنّهم ارتدوا القمباز مع الطربوش أو مع الكوفية والعقال، كل كما يرغب، ولكن في ثورة 1936 كانوا يقبضون على الثوار من خلال لباسهم، فالثوار اعتمروا الكوفية والعقال، وبهذا أجبرت الثورة حينها جميع أهالِي النّاصرة، باعتمار والعقال كي لا يُعرف الثوّار من بين أهالي النّاصرة خشيةَ القبض عليهم، أما قبل هذا فقد اعتمر بعضهم وخاصة أبناء العائلات العريقة الطربوش، وبعد الثورة توحّدت الناصرة باعتمار الكوفية والعقال.
اقرأ/ي أيضًا | العطار النابلسي: حكاية الطبيعة العريقة التي هجرها أهل الناصرة
لا تنتهي الحكاية هنا، بل تستمر، في هذه المخيطة التي بُنيت عام 1850، ويعودُ بابها الخشبيّ إلى نفسِ العام، وهو خشب من النوعِ القطراني، ما زال صامدًا في البلدة القديمة المنسيّة، لا يتلف بسبب عدم قدرة البكتيريا على العيش فيه، وكم كان يتمنى القمباز أن يبقى شامخًا رغم هرمهِ، كما بقي الباب الخشبيّ هذا، من خلالِ محافظتنا عليه، نحن أبناؤه الذين لم نعد نعرفه، وقد نخر السوس ذاكرتنا ونحن شبّان.
التعليقات