بمجرد التفكير بـ30 عاما في السجون، يتسلل إليك شعور بالحزن والإحباط، لكن حين تقابل الأسير المحرر، سمير سرساوي، تقف على معان لم تدرك عمقها من قبل عن قيمة الأمل والتفاؤل، وهي حكاية شاب أوقدت فيه الثورة الفلسطينية في رحم سنوات الانتفاضة الأولى عام 1988 شعلة الحرية والتحرير، وانخرط فيها، وزج به في السجن المؤبد مدى الحياة، بقرار المحكمة العسكرية في اللد، وهو لا زال في سن الـ21 عاما. لم ينه حينها من تعليمه سوى صف الثامن الإعدادي، ولكنه أنهى فقرة من النضال، ليخوض نضالا جديدا داخل السجن.
لم يعرف اليأس يوما طريقا إلى قلبه، بل كان ينبوعا للتفاؤل والأمل، فخاض نضالا عنيدا لنيل حقوقه وحقوق الأسرى. خاض عشرات المحاكم حتى تسنى له إكمال تعليمه الثانوي والحصول على شهادة الثانوية "البجروت"، ثم اللقب الأول والثاني في العلوم الاجتماعية من الجامعة المفتوحة، وخاض نضالا قضائيا مريرا لتحديد حكم سجنه الذي تحدد لـ30 عاما بعد نضال طويل.
التقيته 8 أيام بعد أن تنسّم الحرية في بلده إبطن، وكأني به يستعد لنضال جديد يبعث أملا جديدا، ويقول في حديثه لـ"عرب 48" حول ما بعد السجن: "الأسير السياسي لم يجنح حتى يحتاج إلى تأهيل في السجن وبعده، ومن يجنح يتسلل إليه اليأس بعد أيام من السجن. الأسير الفلسطيني أمام خيارين: إما أن يعزز إيمانه بما قام به، أو يتراجع وعندها سيخسر صموده داخل السجن، وفي الحالتين سيبقى في السجن، نحن لسنا بحاجة لتأهيل في السجن، لكن الأسير الفلسطيني وبعد الحرية، هناك حاجة لتأهيل الأسرى بعد حريتهم ودمجهم في المجتمع، وليس التعامل معهم كعاهة أو مشكلة اجتماعية. التعامل مع الأسير كإنسان عادي هو المفتاح لدمجه ومساعدته".
لم يسمح له بإلقاء نظرة الوداع على جثماني والده وشقيقه اللذين توفيا أثناء سجنه
وحول سنوات السجن الطويلة يتابع سرساوي: "عندما تدخل السجن وأنت بهذا الإيمان يصبح تفكيرك أكثر إنسانية، على المستوى الشخصي والعام، وهناك الهم الخاص والهم الوطني. وإنسانيا لا أفصل بينهم، هناك البعد عن الأهل على المستوى الشخصي، ولا أقصد البعد الجغرافي، فلم أشعر يوما أنني خارج وطني، حتى هذا السجن المظلم هو على أرض وطني، ولكنه التفكير بالأهل والأعزاء ومن وقف إلى جانبك. وعندما قررت النضال لم أشاور أحدا من أهلي، ومع ذلك كان التزام مطلق من قبل الأهل كما هو الأمر تجاه كل فلسطيني من قبل أهله. عندما دخلت السجن كانت عائلتنا تتشكل من 7 شقيقات، 3 أشقاء والوالد والوالدة، في السجن فقدت والدي عام 2004، وفقدت شقيقي عام 2011، ولم يسمح لي بإلقاء نظرة الوداع ولا حتى المشاركة في جنازتيهما. وأنا في السجن تزوج إخوتي وأخواتي، وأصبح لديهم أبناء وبنات، ويقشعر بدني من ذاك الحب الذي وجد في قلوب الأطفال وأنا داخل السجن. وكبروا على حبي وأنا داخل السجن، وارتبط كل شيء في العائلة مع انتظار يوم حريتي. وكل مطالبة لهم، احتفال أو رحلة، كانت ترتبط بتحريري من السجن، حتى أنهم تعاملوا معي كقديس، ومن يومي الأول وأنا أتنقل بين بيوت أشقائي للمكوث معهم".
صراع مع السجان
وحول الصراع داخل السجن يتابع سرساوي إن "هدف السجان أن يقضي على ما داخل الأسير الفلسطيني، وأن يفقده إنسانيته، وأن يخرج للعالم كوحش. والصراع هنا أن أحافظ على إنسانيتي، وهذا يشمل حياتي داخل السجن، طريقة التعامل مع الأسرى، التعليم والثقافة وهذا هدف وطني وإنساني. وفي الأسر مدرسة وفيه أساتذة كبار منهم من تعلمت منهم، ومنهم من يتولى مناصب قيادية في الشعب الفلسطيني، وكانوا أساتذة كبارا داخل السجن، ولا فرق داخل السجن في الانتماء الحركي او السياسي، وهذا من أكبر التحديات التي يخوضها الأسير داخل السجن، والتحدي الأكبر هو الحفاظ على إنسانية الأسير، وعدم فقدان الأمل والتفاؤل".
صفقات التبادل واستثناء أسرى الداخل
وحول ما كان يتوارد عن إدراج اسمه في صفقة "وفاء الأحرار"، قال سرساوي: "لم تكن هناك أي صفقة يمكن الاعتماد عليها، أو أن آمل خيرا في حريتي، صفقات التبادل التي يمكن الإشارة إليها هي صفقة 1985، وصفقة وفاء الأحرار. كانت صفقات لحزب الله أفضت إلى تحرير أسرى لبنانيين، وأقول بصراحة إن حزب الله خدع الأسرى الفلسطينيين بشكل كبير، عندما كان يصرح ببث مباشر على قناة المنار أن ما لديه سيطلق سراح كافة المؤبدات في السجون الإسرائيلية، ولكن في النهاية كان غير ذلك. وبالعودة إلى صفقة وفاء الأحرار (شاليط)، فإن ما كان يتوارد داخل السجن هو أن كافة أسرى الداخل والذين تم استثناؤهم من أي اتفاق سياسي سابق، سيتم إطلاق سراحهم في صفقة وفاء الأحرار. وهذا كان يأتي من أسرى حماس داخل السجن، وكان أمل كبير بإطلاق سراحنا في هذه الصفقة. اليوم أنا حر، ولكني لا أنسى 12 أسيرا من الداخل لم تشملهم أي صفقة، وهم من قدامى الأسرى الذين تخلى عنهم الجميع، وتخلت عنهم حماس، وهم كريم يونس وماهر يونس وإبراهيم أبو مخ ورشدي أبو مخ ووليد دقة وإبراهيم بيادسة وأحمد أبو جابر وبشير الخطيب وإبراهيم إغبارية ومحمد سعيد إغبارية، ويحيى إغبارية ومحمد جبارين. وهناك 27 أسيرا فلسطينيا أيضا أسرى ما قبل أوسلو أيضا لم يشملوا في أي صفقة، وحماس كان لديها جندي، وكان بإمكانها فرض شروطها، ولقد سبق وقدمت قائمة بأسماء كافة أسرى ما قبل أوسلو، وكان من المفهوم أن تشملنا الصفقة، ولذلك لم أتفهم ما قاموا به خلافا للاتفاقات التي أفضت إلى تحرير أسرى فلسطينيين، والتي لم يكن لدى الطرف الفلسطيني أوراق ضغط فيها".
آفاق صفقة جديدة
وتابع الأسير المحرر متحدثا عن آفاق صفقة جديدة مع حماس: "داخل السجن تم الحديث عن صفقة قريبة منذ عيد الأضحى السابق، ثم في موعد المولد النبوي، ثم في ذكرى انطلاق حماس. ما ينقل داخل السجن أن لدى حماس ما يمكن أن يفضي إلى صفقة تحرير كبيرة أكبر من صفقة وفاء الأحرار وحتى تبييض السجون، وهذا ما يأتي من الخارج، وليس من الأسرى أنفسهم".
الصراع للتعليم وتحديد فترة السجن
وعن صراعه لتحديد فترة حكمه بالمؤبد يقول سرساوي إنني "قدمت على مدى سنوات التماسات عديدة في هذه القضية، وكانت هناك إشكالات قضائية كوني حكمت بمحكمة عسكرية، وخضت مسارا قضائيا طويلا، حتى وصل الأمر إلى تغيير قانون في نهاية الأمر عام 2012 أفضى إلى تحديد حكم السجن علي بـ30 عاما، وكذلك حدد للأسرى من الداخل فترة حكمهم، التي تراوحت بين المؤبد 30 عاما وحتى 3 مؤبدات، وهنا لا بد من الإشارة إلى دور النواب العرب في مرافقتنا ومساعدتنا، وأشير إلى كل من محمد حسن كنعان الذي بدا ولم ينه بسبب إنهاء دورته البرلمانية، وكذلك النائب عباس زكور، وتابع الأمر بمنهجية ومثابرة النائب إبراهيم صرصور".
أما عن التعليم فقد احتاج الأمر، أيضا، إلى خوض صراع قضائي على كل شيء تقريبا، بحسبه، حتى على توفير كرسي وطاولة وإضاءة مناسبة للدراسة. ويقول "خضت صراعا قضائيا كبيرا للحصول عليها، ولذلك صار من الطبيعي أن أن أدرس الالتماسات والقانون وحقوق الأسير، ولذلك كنت أحد خبراء حقوق الأسرى داخل الحركة الأسيرة".
ويتابع "أمضيت 30 عاما في السجن، ولكني تجولت في العالم من خلال قراءة الآداب المختلفة، من البرازيل إلى أوروبا وتركيا وغيرها، تعلمت قواعد اللغات، الإنجليزية، الألمانية والإسبانية، وما اجتاحه هو ممارسة هذه اللغات لإتقانها، وأكبر كنز كان في السجن هو القراءة والثقافة، وأن تتعلم وتعّلم ما تعلمته".
وعن المرحلة المقبلة في حياته، يضيف "من أدبيات القراءة في السجن أحببت الترحال، وقد تكون ألمانيا أول دولة سأزورها، ولكن هناك أيضا الوقت الذي أحب أن أمضيه إلى جانب والدتي المريضة التي أقعدها المرض وأنا في السجن عام 2013، بعد تعرضها لجلطة أقعدتها، ولم تتمكن من زيارتي بعدها على مدار سنة كاملة، وهناك العائلة المحيطة المحبة التي أحب أن أمضي معها الوقت بعد أن انتظرتني 30 عاما.
رسالة إلى الأسرى
وختم سرساوي مخاطبا الأسرى: "لا يجوز لكم، ولا يحق لكم أن تتخلوا عن الأمل بالحرية، إذا تخليتم فقد هنتم وخنتم الرسالة، لا بد من استمرار الأمل في حياتكم لتعودوا إلى أهلكم شامخين، فعندما عدت إلى أهلي عدت بهذه الطريقة، هذا ما شهده شعبي وبلدتي، عدت أحمل العلم الفلسطيني فخوراَ شامخا مؤمنا بعدالة قضيتي، هذا هو أنا، كلي أمل وتفاؤل، وهذا ما نريدكم أن تكونوا عليه، مؤمنين شامخين لا يغادركم الأمل والتفاؤل بالحرية القريبة".
التعليقات