صدرت رواية «سوداد (هاوية الغزالة)»، للكاتب الفلسطينيّ فاروق الوادي الّذي رحل بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) في البرتغال عن عمر يناهز 73 عامًا.
تدور أحداث الرواية بين ما هو حقيقيّ وما هو خياليّ، تأتي في عنوانها محمّلة بمضامين المتعة الكامنة في الألم، إذ تبدأ بمقدّمة صغيرة لشرح العنوان، تُورد عنه الآتي: "سوداد (Saudade): كلمة برتغاليّة متفرّدة، ليس لها وجود في أيّة لغة كونيّة أخرى". كما هو حال العنوان، ينفرد فاروق الوادي في بناء نصّ أدبيّ يروي عبره الألم والظلم واللذّة والرغبة بأسلوب سرديّ مميّز، تَظهر من خلاله لغته السلسة، وثقافته الموسوعيّة، وقدرته الفائقة على رسم عوالم تتأرجح بين الماضي والحاضر، وبين الشرق والغرب.
ينفرد فاروق الوادي في بناء نصّ أدبيّ يروي عبره الألم والظلم واللذّة والرغبة بأسلوب سرديّ مميّز، تَظهر من خلاله لغته السلسة، وثقافته الموسوعيّة، وقدرته الفائقة على رسم عوالم تتأرجح بين الماضي والحاضر...
هاوية الغزالة ... وما من إلهٍ قدّم الغوث
تَستند الرواية على أسطورة دينيّة من الموروث الشعبيّ البرتغاليّ، هي معجزة ظهور مريم العذراء في السماء، أثناء سقوط غزالة من جرف عالٍ إلى مياه المحيط الأطلسيّ، وهي تهرب من الأمير المحارب الّذي يحاول اصطيادها، وجُسّدت المعجزة بلوحة أيقونيّة معلّقة على جدار مدخل «كنيسة سيّدة الناصرة» في مدينة تُدعى الناصرة (Nazare) أيضًا في وسط البرتغال.
يعتمد الكاتب تحليلًا بصريًّا للأيقونة لتكون مفتتح الرواية وعنوانها الثانويّ، ويتحدّث في الصفحات اللاحقة عن قصّة فتاة تُدعى ياسمين (الغزالة الأولى)، ابنة مالك «فندق قصر الحمراء» في رام الله، وملكة جمالها في خمسينات القرن الماضي، الّتي تقع ضحيّة زواج ظالم من أمير خليجيّ.
بطل الرواية ’ياسين منصور‘، لاجئ يعيش في رام لله، يقع في فترة مراهقته في حبّ ياسمين، ويكون حبّه لها من طرف واحد، ويدخل بسببه سجن المقاطعة، وهناك تبدأ معاناته بعد زواجها من الأمير ومرافقته إلى بلده، وتستمرّ حتّى بعد ذهابه للعمل في الكويت مع أخيه الأكبر، وتنقّله بين لبنان وفرنسا وإسبانيا وليبيا وسوريا، انتهاء بعودته مع العائدين إلى الضفّة الغربيّة بعد توقيع «اتّفاقيّة أوسلو».
أثناء هذه التنقّلات مثله مثل أيّ فلسطينيّ، يُبحر ياسين بين البلدان باحثًا عن وطن بديل وفرصة أفضل للحياة، يتعرّف على فنّانة برتغاليّة مقيمة في إسبانيا تُدعى جيزيلا (الغزالة الثانية)، الّتي سُرعان ما تتعلّق به؛ ليتخلّى عنها - في النهاية - وتدخل السجن؛ لتلد بين أسواره طفلة اسمها ياسمين (الغزالة الثالثة)، الّتي تكبر بدون أب في مدينة تولوز بفرنسا، وتبدأ عند بلوغها سنّ الرابعة عشرة مسيرة البحث عن عائلتها الفلسطينيّة، وهي لا تتحدّث العربيّة.
شخصيّات الشتات الفلسطينيّ
يستوحي الوادي شخصيّات الرواية من القصص الإنسانيّة لمعاناة الفلسطينيّين وتشرذمهم في بقاع الأرض؛ جرّاء النكبة والنكسة والترحيل بعد غزو الكويت، ويهدف إلى إظهار الظلم الّذي يمرّ به الشعب الفلسطينيّ، مثال ذلك: توظيفه لشخصيّة نعيم اليافاوي كمتخيَّل فنّيّ من سيرة الممثّل صلاح بركات، بالإضافة إلى إدراجه بعض الشخصيّات الّتي وردت في كتبه السابقة؛ «رائحة الصيف» و»سرير المشتاق»، دون إغفال الصفات السلبيّة لدى بطل الرواية، الّذي يُظهره بصورة زير النساء، الّذي يستغلّ منصبه الإداريّ في المجلّة لإقامة علاقات بالكاتبات، كما يُظهِر فساده الماليّ مع التنظيمات في لبنان، ويبيّن صفاته الانتهازيّة والوصوليّة، والظلم الّذي أوقعه على ابنته ياسمين وأمّها، عندما خذلهم وتخلّى عنهم، وهي الصفات الّتي تظهر واضحة وجليّة من خلال مقولته الّتي يُبيّن فيها عِظم نرجسيّته وهولها: "لو كنت قادرًا على أن أتخلّص من ظلّي لتخلّصت منه. إنّه ثقيل وباهظ عليّ عندما أسحبه خلفي وأراه يلاحقني".
على الرغم من التوظيف الممتاز للأبيات الشعريّة بمحتوى كلّ فصل، يلاحَظ على امتداد الرواية ضعف ربط فكرة البدائل داخل «سوداد»، مقارنة برواية «حارس التبغ» للأديب العراقيّ علي بدر...
يلاحَظ أنّ الكاتب يقوم باستخدام مقاطع شعريّة في بداية كلّ فصل ومقطع من الرواية، وهذه المقاطع جميعها تُنسَب إلى الشاعر البرتغاليّ فيرناندو بيسوا، الّذي يُعتبر من أهمّ الشعراء العالميّين الّذين يشتهرون باستخدام قرائن (أبدال)، وهي شخصيّات اخترعها بيسوا ومنحها أسماء، لكلّ واحد منهم تجربة مختلفة تمامًا، أكثرها شهرة وشيوعًا: ألبيرتو كاييرو، وريكاردو ريش، وألفارو دي كامبوش. يوحي الاقتباس من القرائن الثلاث في الرواية بدايةً بحدوث تغيّر جوهريّ في شخصيّة البطل، مع الإشارة إلى وجود اسمين له (ياسين - نهاد)، لكن مع تقدّم الأحداث حتّى نهايتها يَبرز تطوّر خطّيّ طبيعيّ دون حدوث انقلابات جذريّة، وهو ما يحيل إلى احتماليّة أن يكون المقصود بالقرائن الغزالة الضحيّة الّتي جسّدت شخصيّات: ياسمين الملكة، وجيزيلا، وياسمين الطفلة، والمشترك بينهم هو وقوعهم ضحايا وتعرّضهم للظلم. على الرغم من التوظيف الممتاز للأبيات الشعريّة بمحتوى كلّ فصل، يلاحَظ على امتداد الرواية ضعف ربط فكرة البدائل داخل «سوداد»، مقارنة برواية «حارس التبغ» للأديب العراقيّ علي بدر، حيث تلتبس حياة واحدة بثلاث شخصيّات مختلفة أثناء الاستقصاء عن حياة الموسيقار العراقيّ كمال مدحت.
إنّ الوادي تنطبق عليه مقولة بيسوا الّتي أوردها في روايته "هو الآن يزور الأقاليم الّتي لا نور فيها"، هذه الرواية الّتي اختتم بها الوادي مشواره الأدبيّ الطويل، وإصداراته المختلفة الّتي تنوّعت بين النقد والرواية والقصّة القصيرة وكتابة المقالات، الّتي قدّم لنا من خلالها نموذجًا عظيمًا لما ينبغي أن يكون عليه المثقّف من التزام تجاه قضيّته، وسافر بنا عبرها إلى عوالم جميلة بمنحوتاته اللغويّة العذبة، ورحل.
ناشط في العديد من المبادرات الشبابيّة والثقافيّة، في مدينة نابلس تحديدًا، ويهتمّ بالشأن الثقافيّ والسياسيّ. خرّيج قسم «الهندسة الكهربائيّة» في «جامعة النجاح الوطنيّة» في نابلس.