إنّ قيمة الفنّ العليا تتمثّل في كونه يخرق كلّ الحواجز وُيعلي قيمة الحرّيّة والتحرّر بكلّ أشكالها، في سياق استعماريّ كولونياليّ، وهو ما يجعل من غير الممكن ممكنًا، بتكريس تحقّقه في الفنّ والثقافة قبل الواقع نفسه.
يقدّم رواق - مركز المعمار الشعبيّ ضمن فعاليّات 'بينالي رواق' الخامس ومحفل' قلنديا الدوليّ' بنسخته الثاثة، والموسوم هذا العام بـ 'هذا البحر لي'، معرضًا فنّيًّا متعدّد الوسائط بعنوان 'بدون قَيِّم- سلسلة فعاليّات حرّة'، وهو يضمّ ثلاثة عروض فنّيّة: (1) 'بوّابة يافا'، من إنتاج وإخراج رواق (2016). (2) 'محاولة خروج'، وهو مشروع فنّيّ تشاركيّ، أنجزته مجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين؛ أحمد حمزة وآلاء مهدي وعلي الرزي ورهام غزالي، بتوجيه من الفنّانة تينا شرويل، وبدعم فنّيّ من كرم أبو خلف، ودعم مادّيّ من مؤسّسة المجتمع المفتوح. (3) 'سأعبر أرض بياضهم'، وهو عبارة عن فيديو فنّيّ قصير من إنتاج الفنّانة ميرنا بامية، ومدّة عرضه 2:05 دقيقة، وقد أُنْتِجَ عام 2012 للمشاركة في مسابقة الفنّان الشابّ التي ينظّمها برنامج الثقافة والفنون في مؤسّسة عبد المحسن القطّان. ويستمرّ هذا المعرض في حوش العتم - المركز التاريخيّ في البلدة القديمة في بلدة بيرزيت، حتّى السادس والعشرين من الشهر الجاري.
البحر قيمةً
ويركّز مهرجان 'قلنديا الدوليّ' هذا العام على البحر كقيمة مادّيّة وروحيّة للشعب الفلسطينيّ وذاكرته، انطلاقًا من أنّ البحر قد أُسْقِطَ من مفاهيم العودة الفلسطينيّة ورموزها، مقابل إعلاء قيمة الأرض والجبل والبيت، مثلًا.
لكن يجدر التوقّف قليلًا عند هذا الطرح، إذ إنّ فقدان البحر كما هو فقدان الأرض والبيت نتيجة أولى من نتائج الاستعمار الصهيونيّ، وإنّ مَنْ فقده بالأساس هو الفلسطينيّ اللاجئ والفلسطينيّ الذي لا يُسْمَحُ له بالوصول إليه، كما هو الحال مع الفلسطينيّين من سكّان الضفّة الغربيّة الذين يشكّل البحر بالنسبة لهم صورة فقط، في الذاكرة والجغرافيا.
أمّا بالنسبة لبقيّة الفلسطينيّين، على اختلاف أماكنهم الجغرافيّة وتوزيعهم الديمغرافيّ، في قطاع غزّة وفي الأراضي المحتلّة عام 1948 وفي القدس، ممّن يُسْمَحُ لهم باجتياز حدودها، فإنّ البحر لم يسقط من ذاكرتهم، ولم يفقدوه، بل لا زالت فاعليّته حيّة بالنسبة لهم، ولا يزال يشكّل للغزّيّين مصدر رزقهم الأساسيّ، رغم كلّ التقييدات. ولذلك فإنّ موضوع البحر كما الجغرافيا، يشكّل مشتركًا جمعيًّا للفلسطينيّين وذاكرتهم وتجربتهم الجمعيّة بالفقد والاستحواذ معًا، رغم تفتيت الاستعمار الصهيونيّ للجغرافيا الفلسطينيّة.
استعادة الذاكرة
يقوم معرض 'بدون قَيِّم - سلسلة فعاليّات حرّة' على البحث بشكل أساسيّ في مفهوم المكان والحيّز والذاكرة وتفاعلها معًا، والنتاج الممكن استخلاصه خلال هذا التفاعل. ففي 'بوّابة يافا'، يعتمد المعرض كلّه على مجموعة صور ماتسون التي تُبَيِّنُ مدخل مدينة القدس من جهة بوّابة يافا عام 1917، وأهمّ صورة فيها هي تلك التي تصوّر اللحظة التاريخيّة الاستعماريّة لبداية الاستعمار الكولونياليّ الأوروبيّ على فلسطين، بدخول الجنرال اللّنبي مدينة القدس على حصانه في 18 كانون الأوّل (ديسمر) عام 1917. وفي خلفيّة الصورة تبدو بوّابة يافا/ بوّابة الخليل يعلو أحد زواياها بناء برج الساعة النادر قبل هدمه.
تُعَدُّ هذه الصورة التوثيق البصريّ الوحيد لبناء برج الساعة في القدس، إضافة إلى مجسّم خشبيّ صغير يطابق البرج تمامًا، صنعه الموسيقار المقدسيّ واصف جوهريّة حين هُدِمَ البناء، تعبيرًا عن حزنه على هذه الخسارة. عولجت مجموعة الصور هذه بتقنيّة الوسائط المتعدّدة، لتصبح على شاكلة فيديو معدّ باحترافيّة عالية، يبدو وكأنّه يصوّر جزءًا من الذاكرة الفلسطينيّة في تلك اللحظة التاريخيّة. وإلى جانب ذلك، ظهر في المعرض مجسّم لبرج الساعة وسور بوّابة يافا، يتطابق مع ذلك الذي ظهر في خلفيّة صورة اللّنبي داخلًا مدينة القدس.
هذه الاستعادة للذاكرة الفلسطينيّة من خلال صورة أرشيفيّة تسرد عددًا من الحقائق التاريخيّة ذات العلاقة بتلك الفترة تحديدًا، مثل: التوقيت الزمنيّ لدخول اللّنبي مدينة القدس، حيث استُدِلّ عن طريق ظلّه على الأرض أنّ الفترة كانت صباحًا، وتقترب من السابعة والنصف، وهذا ما أكّدته ساعة البرج في الصورة؛ بالإضافة إلى حقيقة أنّ برج الساعة في القدس كان واحدًا من أبراج سبعة أُقيمت في فلسطين عام 1901، ابتهاجًا بمرور 25 عامًا على وصول السلطان عبد الحميد الثاني إلى سدّة الحكم العثمانيّ، وقد توزّعت هذه الأبراج في نابلس ويافا وحيفا وعكّا وصفد والناصرة، بالإضافة إلى القدس.
إنّ استعادة الذاكرة لهذه الأحداث التاريخية وإعادة تجسيدها من خلال العمل الفنّيّ، يفتح السؤال على مصراعيه حول كيفيّة تذكّر الفلسطينيّ لما سُلِبَ من ذاكرته وأُقْصِيَ عنها، وسياسات هذا التذكّر والذاكرة وفعلها بهما. فبرج الساعة في مدينة القدس هدمته جمعيّة محبّي القدس، وهي جمعيّة تضمّ عربًا وبريطانيّين، بدعوى أنّه كان بناءً جديدًا آنذاك لا يتلاءم وعراقة وتاريخ حجارة بوّابة يافا. لكن ما دام المستعمر البريطانيّ قد ساهم في هدمه، فذلك يحرّض الذهن على إثارة الأسئلة والشكوك حول إقدامه على ذلك، ويحرّض على استعادة ذاكرة المكان والحيّز بأيّ وسيلة كانت.
يركّز هذا المعرض على الذاكرة المادّيّة المحسوسة في المعمار وعلاقته بالمكان والسكّان، ودوره في أن يكون جزءًا من ذاكرتهم الجمعيّة؛ فبرج الساعة المهدوم شكّل جزءًا مهمًّا من ذاكرة المقدسيّين في نهايات الحكم العثمانيّ وبدايات الانتداب البريطانيّ قبل هدمه، كما شكّل مع أبراج الساعة الأخرى الموجودة إرثًا جمعيًّا للفلسطينيّين.
استعادة الحياة
يبرز معرض 'محاولة خروج' معاناة الإنسان الغزّيّ بسبب الحصار من كلّ الجهات، لا سيّما في معبر رفح الذي يحول بينه وبين العالم الآخر، وثنائيّاته المتناقضة التي تحيط به، ما بين الاحتلال والسلطة، والسلطة ومصر، وحماس ومصر.
يحاول هذا المعرض كسر فكرة الحصار من خلال الفنّ والعبور إلى فضاء الحرّيّة التي يطمح إليها المحاصَر، وقد انعدمت أمامه الوسائل الممكنة للخروج. كما يجمع المعرض بين 'تقنيات السينما والأداء المسرحيّ والواقع المعزّز'، لإعطاء صورة واضحة عن الحصار الغزّيّ الداخليّ والخارجيّ، وعن الرغبة بالتحرّر منه، وهو ما يشعر به الزائر للمعرض، حيث يدخل غرفة صغيرة ضيّقة فيها تصميم مادّيّ على هيئة مطبخ صغير يبدو أنّه يمثّل حيّز المعيشة في قطاع غزّة لعدد كبير من الناس، لا سيّما بعد الحروب الصهيونيّة المدمّرة المتوالية عليه.
يبتدئ العرض بتصوير شابّ تحيط به قضبان تقيّد حرّيّته، وهو يحاول، على الرغم من ذلك، النجاة من الحرب والحصار والخوف بصعوبة بالغة، إذ كلّما تحرّر من حصار واحد وجد أمامه آخر، ووجد نفسه، أيضًا، تنازعها هواجس العبور والخروج من حصاره المادّيّ وحصاره النفسيّ دون جدوى، فيعود إلى مكانه ويتقوقع على نفسه عاجزًا عن إيجاد نقطة عبور ممكنة تخرجه من حصاراته.
هذا العرض القصير يشمل، أيضًا، محاولات الفلسطينيّ بشكل أعمّ للخروج من حالة الاستعمار التي تحاصره من كلّ النواحي وعلى كلّ الأصعدة.
عبورٌ إلى الأرض
أمّا معرض 'سأعبر أرض بياضهم'، فقد تناول ثيمة العبور والعودة إلى الأرض بدلًا من الخروج منها لفضاء العالم الأرحب، كما في العرض الذي سبق تناوله. وهو مقطع لفيديو تعبيريّ يصوّر محاولة اللاجئين الفلسطينيّين في سوريا خرق الحدود مع فلسطين المحتلة، في ذكرى النكبة الثالثة والستّين عام 2011. هذه المحاولة، التي كانت على قدر عالٍ من الخطورة لأنّها عبرت منطقة مزروعة بالألغام تفصل سوريا عن الجولان المحتلّ، لتمثّل حسب الفنّانة ميرنا بامية 'أكثر المحاولات جدّيّة لعودة اللاجئين إلى بلدهم الأصل'، دون مبالاة بالمحتلّ وأسلاكه الشائكة وألغامه،كما لو كان وجود المحتلّ هو الوهم عينه.
This mined land of ours by Mirna Bamieh from Mirna Bamieh on Vimeo.
هذه العودة، وإن كانت مجرّد محاولة، فقد كسرت مفهوم الخوف من اللغم وجعلت المحتلّ وقوانينه وكلّ سلطته تتلاشى، ومثّلت توق الفلسطينيّ، على اختلاف أجياله السابقة واللاحقة، لممارسة العودة الحقيقيّة إلى أرضه. وهي الممارسة التي تحوّل الحيّز المحتلّ إلى حيّز مستعاد، وإن كانت استعادته لحظيّة.
يركّز الفيديو في نهايته على شخص واحد فقط من ضمن العشرات الذين اخترقوا الحدود، وتبدو مشيته منسابة بشكل أقرب إلى الرقص، كما لو كان يعيش أقصى لحظات حرّيّته وامتلاكه لأرضة المسلوبة.
جعل غير الممكن ممكنًا
دارت العروض الثلاثة التي ضمّها معرض 'بدون قَيِّم' حول مفهوم الاستعادة للذاكرة والجغرافيا والتراث المادّيّ المعماريّ، الذي يشكل جزءًا من الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة، ومفهوم المكان والحيّز وحدوده، إن كان بالخروج إلى العالم الأوسع وكسر كلّ قيود الحصار والتهميش، أو بالدخول والعبور إلى الأماكن التي يُمْنَعُ الفلسطينيّ من الوصول إليها. وفي الحالات الثلاث، فإنّ الاستعمار وسياساته هو الذي شوّه معالم وجود الفلسطينيّ، بالسيطرة على البحر وهدم المعمار الأثريّ ومحاولة تشويه الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة التاريخيّة والسيطرة على الحدود، التي تَحول دون ممارسة الفلسطينيّ حرّيّته في التنقّل والخروج والعودة أنّى شاء ومتى شاء.
إنّ قيمة الفنّ العليا تتمثّل في كونه يخرق كلّ الحواجز وُيعلي قيمة الحرّيّة والتحرّر بكلّ أشكالها، في سياق استعماريّ كولونياليّ، وهو ما يجعل من غير الممكن ممكنًا، بتكريس تحقّقه في الفنّ والثقافة قبل الواقع نفسه.
ويشرف رواق – مركز المعمار الشعبيّ خلال هذا المعرض على سلسلة من الفعاليّات والنشاطات الإضافيّة، التي تشمل جولتين ميدانيّتين، إحداهما اسمها 'سراب'، وهي جولة إلى البحر الميّت، والثانية اسمها 'بلكونة بحريّة'، وتيمّم وجهها شطر قرية رنتيس. إضافة إلى ندوة في مركز خليل السكاكينيّ مع سليم تماري؛ أستاذ علم الاجتماع، وطاقم رواق، بعنوان 'علقان على غيار ثاني: وجهًا لوجه مع التسعينيّات'، وندوة أخرى لإشهار كتابي 'السرايا العثمانيّة' و'الاستحواذ على المكان'، في حديقة مركز رواق في مدينة البيرة، في السابع والعشرين من الشهر الحالي.