منذ أن عرف الداء جرى البحث عن الدواء. قبل الإسلام اعتمد الناس في العلاج على التداوي بالأعشاب وعلى ما توارثوه جيلاً بعد جيل من خبرات مثل التجبير وعلى الشعوذة والسحر، فلما جاء الإسلام ضمدوا الجراح في المعارك، وبدأوا يتعلمون الطب من الشعوب المجاورة، فأخذوا عن اليونان كتبهم في الطب، وترجموها، وعن الفرس البيمارستان، والمصطلح الأخير فارسي مكون من كلمتين الأولى بيمار بمعنى مريض، أو عليل، والثانية ستان وتعني مكان، أو دار، فهو إذًا دار المرضى، ثم اختصرت في الاستعمال فصارت مارستان.
وكان أول من بنى البيمارستان في الإسلام الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 88 هجرية/706 ميلادية، وجعل فيه الأطباء وأجرى على المجذومين والعميان الأرزاق. في العصر العباسي انتشرت البيمارستانات في المدن الكبيرة، وعمل فيها كبار الأطباء، مثل الرازي وابن سينا والزهراوي وابن البيطار. منذ سنة 1258 جرى تعليم الطب في جامعة السوربون بفرنسا باللغة العربية وقد استمر ذلك لمدة 400 عامًا.
كان الطبيب في أول عهد الدولة الإسلامية يقرأ الطب على أي طبيب من النابهين في عصره، حتى إذا آنس من نفسه القدرة على مزاولة الصنعة باشرها بدون قيد أو شرط. وكان أول من نظّم صناعة التطبيب وقيّدها بنظام خاص حرصًا على مصلحة الجمهور هو الخليفة المقتدر بالله جعفر بن المعتضد الذي تولى الخلافة سنة 295 هجرية/907 ميلادية، ففرض على من يريد التطبيب تأدية امتحان للحصول على إجازة تخوله مزاولة هذه الصناعة (المهنة) بين الناس.
والسبب الذي دعا الخليفة المقتدر إلى هذا التقييد هو ما روي على لسان سنان بن ثابت، رئيس الأطباء في عصره وطبيب الخليفة الخاص، قال سنان بن ثابت: "لما كان في عام 319 هجرية/931 ميلادية اتصل بالمقتدر أن غلطًا جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل، فأمر الخليفةُ أبا إبراهيم بن محمد بن أبي بطيحة المحتسب بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرّضة، وكتب له رقعة بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة، فصاروا إلى سنان وامتحنهم وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه، وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيف وستين رجلاً سوى من استغنى عن محنته باشتهاره بالتقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان. وصار النظام بعد ذلك: متى أتم الطالب دروسه يتقدم إلى رئيس الأطباء في القطر المصري، ووظيفته هي أكبر وظائف الأطباء، ويطلب إليه إجازته لمعاناة صنعة الطب، وكان الطالب يتقدم إليه برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناة التطبيب (وهذه الرسالة أشبه اليوم بأطروحة (تيزا))، وتكون هذه الرسالة له أو لأحد مشاهير الأطباء المتقدمين، أو المعاصرين يكون قد أجاد دراستها فيمتحنه فيها؛ ويسأله في كل ما يتعلق بما فيها من الفن؛ فإذا أحسن الإجابة أجازه الممتحن بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة".
في عهد الخليفة المعتصم في سنة 221 هجرية/836 ميلادية جرى أول امتحان رسمي في الطب والصيدلة في العالم. كان الطبيب يعطى إجازة رسمية من رئيس الأطباء بعد نجاحه في الامتحان، ويراقب عمله المحتسب الذي كان يعين عريفًا على أصحاب كل صنعة.
ذكر القلقشندي أرباب الصناعات في دمشق منها: رياسة الطب، رياسة الكحالين ورياسة الجرائحية وكلها على نحو ما هو موجود في مصر. وألقاب أرباب الوظائف من أهل الصناعات هي:
- رئيس الأطباء وهو الذي يحكم على طائفة الأطباء ويأذن لهم في التطبيب ونحو ذلك؛
- رئيس الكحالين (رئيس أطباء العيون) وحكمه في الكلام على طائفة الكحالة حكم رئيس الأطباء في طائفة الأطباء؛
- رئيس الجرائحية وحكمه في الكلام على طائفة الجرائحية والمجبرين كالرئيس المتقدم.
كان المحتسب يراقب عمل الأطباء والصيادلة. وقد ذكر عبد الرحمن الشيزري (ت: 590 هجرية/1194 ميلادية) في كتابه نهاية الرتبة في طلب الحسبة الشريفة ما ينبغي عليهم فعله: " وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم ألا يعطوا أحدًا دواء مضرًّا، ولا يركّبوا له سُمًّا، ولا يصفوا التمائم عند أحد من العامة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار، وينبغي للطبيب أن يكون عنده جميع آلات الطب على الكمال مما يحتاج إليه في صناعة الطب غير آلة الكحالين والجرائحيين". وللمحتسب أن يمتحن الأطباء بما ذكره حنين بن إسحاق في كتابه المعروف بـ"محنة الطبيب"، فأما محنة الأطباء لجالينوس فلا يكاد أحد يقوم بما شرط عليهم.
و"أما الكحالون، فيمتحنهم المحتسب بكتاب حنين بن إسحاق (كذلك)، أعني العشر مقالات في العين، فمن وجده فيما امتحنه به عارفًا بتشريح عدد طبقات العين السبعة وعدد رطوباتها الثلاث، وعدد أمراضها الثلاث، وما يتفرع من ذلك من الأمراض، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس. ولا ينبغي أن يُفرط (الكحال) في شيء من آلات صنعته، مثل صنانير السبل والظفرة، ومحك الجرب، ومباضع الفصد، ودرج المكاحل وغير ذلك.
وأما كحالو الطرقات فلا يوثق بأكثرهم، إذ لا دين لهم يصدّهم عن التهجم على أعين الناس بالقطع والكحل بغير علم ومخبرة بالأمراض والعلل الحادثة، فلا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة عينيه، ولا يثق بأكحالهم وأشيافاتهم، فإنّ منهم منْ يصنع أشيافًا أصلها من النشا والصمغ، ويصبغها ألوانًا مختلفة، فيصبغ الأحمر بالأسريقون، والأخضر بالكركم والنيل والأسود بالأقاقيا والأصفر بالزعفران، ومنهم من يجعل أشياف ماميتا، أو يجعل أصله من البان المصري ويعجنه بالصمغ المحلول، ومنهم من يعمل كحلاً من نوى الإهليلج المحرق والفلفل، وجميع غُشوش أكحالهم لا يمكن حصر معرفتها، فيحلفهم المحتسب على ذلك، إذ لا يمكنه منعهم من الجلوس لمعالجة أعين الناس".
"أما الجرائحيون، فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس المعروف بقاطاجانس في الجراحات والمراهم وكتاب الزهراوي، وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان، وما فيه من العضل والعروق والشرايين والأعصاب ليتجنب الجرّاح ذلك في وقت فتح المواد وقطع البواسير. ويكون معه دست المباضع، فيه مباضع مُدوّرات الرأس، والموربات والحربات، وفأس الجبهة، ومنشار القطع، ومخرقة الأذن، وورد السلع، ومر همدان المراهم، ودواء الكندر القاطع للدم الذي قدمنا صفته. وقد يبهرجون على الناس بعظام تكون معهم فيدسونها في الجرح، ثم يخرجونها منه بمحضر الناس، ويزعمون أن أدويتهم القاطعة أخرجتها، ومنهم من يضع مراهم من الكلس المغسول بالزيت، ثم يصبغ لونه أحمر بالمعرة، أو أخضر بالكركم والنيل، أو أسود بالفحم المسحوق، فيعتبر عليهم العريف جميع ذلك".
في العهد العثماني كان لا يسمح للشخص بمزاولة مهنة الطب إلا إذا درس الطب في معهد خاص، وحصل على شهادة تثبت نجاحه في الامتحان. فلما احتل الإنجليز فلسطين فرضوا على الأطباء أن يدرسوا خمس سنوات في معهد معترف به، وأن يجتازوا الامتحان النهائي. كان المدير العام لدائرة الصحة وهو انجليزي يمنح الطبيب رخصة تحمل رقمًا خاصًا نظير دفعه جنيهين فلسطينيين، وكانت الرخصة تجدد سنويًا.
التعليقات