سيطرت الحرب في قطاع غزّة على مدى الجزء الأكبر من العام الماضي على عناوين الأخبار العالمية، في حين كان الصراع المتنامي بين إسرائيل وحزب الله على طول الحدود الشمالية للبلاد تحت السطح مباشرة، مما يهدد بالغليان. واليوم، في الذكرى السنوية لهجمات السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر [1]، انعكس الوضع إلى حد كبير: إذ تركز الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الدولي على العنف المتصاعد في لبنان والتصعيد مع إيران، في حين اختفى قطاع غزّة من الصفحات الأولى.
لم ينتهِ القتال في قطاع غزّة بعد. وفي الأسبوع الماضي فقط، قُتل ما يقرب من 100 شخص في الغارات الجوية الإسرائيلية والعمليات البرية في القطاع. ولكن مستويات قوات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة انخفضت بنسبة 90% منذ أعلى نقطة في العملية، حيث حوَّلت إسرائيل مواردها نحو القتال في الشمال.
ورغم تراجع العملية العسكرية التي تطلق عليها إسرائيل اسم «السيوف الحديدية»، فلا توجد أي دلائل تشير إلى أنها ستنتهي في أي وقت قريب. ويبدو أن الصراع يتحول إلى نوع من «الحرب الأبدية» التي اعتادت عليها إسرائيل والولايات المتحدة على حد سواء في العقود الأخيرة. وبدلًا من «اليوم التالي» الذي تُحدِّث عنه كثيرًا منذ بدء الغزو قبل عام تقريبًا، أصبح قطاع غزّة محاصرًا في حاضر دائم من الصراع والفوضى وموت المدنيين. ولكن لا توجد أي دلائل تشير إلى أن هذا الوضع قد يتغير، وهذه أخبار قاتمة للغاية بالنسبة للسكان المدنيين في قطاع غزّة.
وقالت تهاني مصطفى، المحللة البارزة للشؤون الفلسطينية في مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group): «مع تركيز اهتمام العالم على لبنان، أعتقد أن القلق لدى الفلسطينيين هو أنهم تُركوا الآن لوحدهم». ما يزال وقف إطلاق النار في القطاع غزة بعيد المنال. ولم تسفر جولات عديدة من المحادثات التي تقودها الولايات المتحدة بهدف تأمين وقف لإطلاق النار في القتال وعودة الرهائن عن أي نتائج، مع إصرار نتنياهو المُتكرر على الحفاظ على الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع بعد الحرب. في هذه الأثناء، وبعد أشهر من الغضب العام في أعقاب إخفاقات حكومته في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ارتفعت شعبية نتنياهو بعد مقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وهذا يعني أن الضغوط الداخلية لإنهاء الحرب التي أثارت احتجاجات محلية، وجلبت الاستهجان الدولي لإسرائيل، وألحقت الضرر باقتصادها أصبحت أقل بكثير.
ولكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي يعيق إنهاء الصراع. مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، أصبح الرئيس جو بايدن فعليًا بطة عرجاء ذات نفوذ متناقص (وهو على استعداد لاستخدامه، على الأقل) مع أميركا إسرائيل. بعد أشهر من الانتقادات لسلوك نتنياهو في الحرب في غزة، اتخذ المسؤولون الأميركيون، خارج نطاق الصحافة على الأقل، لهجة أكثر إيجابية بشكل ملحوظ بشأن العمليات التي تستهدف حزب الله وإيران.
أما بالنسبة لحماس، ففي حين أنها ما تزال قادرة على شن هجمات دورية، بما في ذلك الهجوم الذي أسفر عن مقتل أربعة جنود إسرائيليين في أيلول/ سبتمبر، وربما ما تزال تحتجز ما يصل إلى 101 رهينة إسرائيلية، فإنها فقدت أكثر من نصف قادتها العسكريين منذ بدء الحرب، وفقًا لتقديرات إسرائيلية.
وإذا جمعنا كل هذا، فإن الوضع في قطاع غزّة أصبح وضعًا يصعب تصنيفه، ولكن ليس أقل كآبة، فهو ليس احتلالا رسميا أو ضما، بل وضعا يسيطر فيه الجيش الإسرائيلي فعليا على القطاع دون أن يحكمه، ويحتفظ بالحق في الضرب عندما يريد، في حين لا يفعل سوى القليل لدعم إعادة بناء المنطقة. إن إمكانية عودة القطاع إلى ما بعد الحرب تبدو أكثر بعدًا من أي وقت مضى. وكما قالت شيرا إيفرون، المحللة في منتدى السياسة الإسرائيلية والمستشارة الخارجية للحكومة الإسرائيلية، فإن كل هذه التطورات تدفع بعض الإسرائيليين إلى التأمل في السؤال: «ماذا لو لم تنته هذه الحرب أبدًا؟»
نوع مختلف من الاحتلال
احتل الجيش الإسرائيلي غزة منذ عام 1967، بعد حرب الأيام الستة، حتى عام 2005، عندما أمر رئيس الوزراء أرييل شارون بانسحاب قوات الأمن، إلى جانب الإخلاء القسري لنحو 8500 مستوطن إسرائيلي. ورغم أن هذه الخطوة حظيت بدعم واسع النطاق في ذلك الوقت، حيث اعتبر الكثيرون الاحتلال مستنقعًا مكلفًا، فإن الانسحاب أصبح يُنظر إليه على أنه خطأ من قِبَل العديد من الإسرائيليين، وخاصة بعد أن سيطرت حماس على غزة في عام 2007.
وما يحدث الآن في قطاع غزة مختلف. ورغم أن بعض أعضاء حركة الاستيطان المؤثرة في إسرائيل، بما في ذلك وزير المالية القومي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، دعوا إلى إعادة بناء المستوطنات في القطاع، فإن هذا لا يحظى بدعم واسع النطاق في إسرائيل، ولا يبدو أن الحكومة تفكر في ذلك بفاعلية. وبينما البعض مثل الجنرال ديفيد بتريوس، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، حث إسرائيل على اتباع نهج مكافحة التمرد على غرار النهج العراقي القائم على «التطهير، والاستيلاء، والبناء»، والذي يجمع بين هزيمة المسلحين ودعم السكان المدنيين، ولكن حفر الآبار وبناء المدارس في غزة لا يبدو مدرجًا على جدول أعمال الجيش الإسرائيلي.
وقال المحلل العسكري في مؤسسة راند رافائيل كوهين: «إن الخطة الإسرائيلية في الوقت الراهن هي الانتقال إلى نوع من مكافحة الإرهاب في غزة. لن يكون انسحابًا، لكنه لن يكون احتلالًا كاملًا أيضًا». وقد يشمل هذا السيطرة على ممر فيلادلفي (محور صلاح الدين) على طول الحدود مع مصر وممر نتساريم الذي يقسم الحدود الشمالية والجنوبية لقطاع غزة، إلى جانب شن غارات دورية على وسط القطاع لاستهداف بقايا حماس، التي من المرجح أن تظل قوة متمردة إلى أجل غير مسمى.
ويقول كوهين إن «القلق الحقيقي هو أن يعلق قطاع غزّة في هذه الحالة المتوسطة»، وهو ما يعني أن القتال منخفض الشدة سيستمر إلى أجل غير مسمى، ولكن دون أي فرصة لإعادة بناء القطاع أو إقامة حكم مستقر.
ولكن ليس كل الناس لديهم مثل هذه البصمة الخفيفة في أذهانهم: فقد قام الجنرال المتقاعد في جيش الدفاع الإسرائيلي جيورا إيلاند بحملة إعلامية مكثفة في الأسابيع الأخيرة للترويج لما يسمى «خطة الجنرالات» بشأن شمال مدينة غزة. إن هذا من شأنه أن يستلزم إعطاء كل السكان المدنيين في شمال غزة (حوالي 250 ألف شخص) أسبوعًا لإخلاء المنطقة، ثم إعلانها «منطقة عسكرية مغلقة» لا يسمح فيها بدخول أي إمدادات، وهو ما يعني في الأساس السعي إلى تجويع أي مقاتلين من حماس قد يبقون هناك. وتشير التقارير إلى أن نتنياهو يدرس الخطة، رغم أنه من المؤكد تقريبا أنها ستواجه إدانة واسعة النطاق باعتبارها جريمة حرب[2].
وقد وضعت إسرائيل تدمير القدرات العسكرية لحماس كهدف أساسي لعمليتها. وبما أن حماس قد تتمكن على الأرجح من مواصلة العمل كحركة تمرد سرية لفترة طويلة من الزمن، فإن هذه وصفة لحرب طويلة للغاية.
أما بالنسبة للهدف الأساسي الآخر، وهو إعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس، فتشير إيفرون إلى أن نتنياهو «يذكر في كل خطاب أنه سيفعل كل ما في وسعه لإعادة الرهائن إلى ديارهم». ولكن في غياب وقف إطلاق النار عن طريق التفاوض، يصبح تحقيق هذا الهدف أمرًا مستبعدًا بشكل متزايد. وقالت إيفرون «أعتقد أننا جميعا نشعر بالقلق إزاء عدم وجود صفقة بشأن الرهائن على الطاولة حاليا». على أية حال، أفادت التقارير أن نتنياهو أبلغ المشرعين أنه يعتقد أن ما يصل إلى نصف الرهائن المتبقين ربما يكونون قد ماتوا بالفعل.
من سيحكم غزة فعليًا؟
وبغض النظر عن خططها العسكرية، لا يبدو أن إسرائيل لديها أي رغبة في توفير الأمن أو الخدمات الاجتماعية للسكان المدنيين في قطاع غزّة الذين أدّى هجومها إلى تدميرهم بالكامل. وشهدت الأسابيع الأولى من الحرب ظهور عدد كبير من المقالات والأوراق السياسية التي تقترح أفكارًا لحكم القطاع في مرحلة ما بعد الحرب. لقد اجتمعت الحكومات الأميركية والغربية حول عدد قليل من هذه الحلول.
لقد دفعت الولايات المتحدة بأفكار تتضمن سلطة فلسطينية «متجددة ومنتعشة»، وهي السلطة التي تحكم الضفة الغربية حاليًا، تتولى السيطرة على قطاع غزّة. ورفض نتنياهو النظر في مثل هذه الخطط، قائلا إنها ستحول غزة من «حماستان» إلى «فتحستان». على أية حال، ونظرًا لعدم شعبية السلطة الفلسطينية في المناطق التي تسيطر عليها بالفعل في الضفة الغربية، فليس من الواضح مدى الشرعية التي كانت ستحظى بها بين سكان قطاع غزّة لو تم تنصيبها تحت تهديد البندقية الإسرائيلية.
كما دفعت إدارة بايدن الدول العربية إلى الاضطلاع بدور قيادي في إعادة إعمار القطاع بعد الحرب، لكن تلك الدول استبعدت الالتزام بهذا النوع من المشاريع دون مسار واضح نحو إقامة دولة فلسطينية.
وتقول إيفرون: «لم توافق إسرائيل على هذه الخطة على الإطلاق». لقد دعا نتنياهو بشكل غامض إلى تشكيل «حكومة مدنية»، لكن إيفرون تقول إن رؤية حكومة نتنياهو تعتمد على إيجاد «فلسطينيين خياليين» مؤهلين لحكم المنطقة، ولكن غير مرتبطين بحماس أو فتح أو أي فصيل فلسطيني آخر ذو قاعدة انتخابية حقيقية. وتظل الحكومة الإسرائيلية تعارض أي خطة تنطوي على مسار نحو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.
وقال آرون ديفيد ميلر، المفاوض في عملية السلام في الشرق الأوسط لعدة إدارات أميركية مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: «لا توجد حكومة جاهزة تأتي وتضمن أمن [إسرائيل]». وفي الوقت الحالي، ورغم القضاء على قياداتها العليا وتدمير بنيتها التحتية المادية، ما تزال الحكومة التي تسيطر عليها حماس قادرة على توفير قدر معين على الأقل من الأمن والخدمات الاجتماعية في أجزاء من قطاع غزّة. ولكن قدرات الحركة محدودة، ومن غير المرجح أن تتحسن في ظل إصرار إسرائيل على تدمير الحركة.
ويقول ميلر: «في المستقبل، سوف ينتهي بنا الأمر إلى وجود عشائر وعصابات إجرامية تملأ فراغ السلطة. ومن الواضح أن حماس والإسرائيليين سوف يكونون أيضًا ضمن هذه المجموعة، ومن المؤكد أن المنظمات غير الحكومية سوف تحاول بين الحين والآخر التوصل إلى طريقة لتقديم المساعدات الإنسانية».
وما تزال هناك حاجة ماسة إلى هذه المساعدات. يصف مسؤولون في الأمم المتحدة الأزمة الإنسانية في غزة بأنها واحدة من الأسوأ في التاريخ الحديث، حيث أصبح نظام الغذاء والصحة في حالة «انهيار كامل». يواجه أكثر من مليون شخص سوء التغذية الشديد. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو ثلثي المباني في قطاع غزّة تعرضت للضرر أو الدمار. وتشير بعض التقديرات إلى أن تكلفة إعادة الإعمار في غزة تجاوزت 80 مليار دولار، وهو ما يزيد على أربعة أمثال الناتج المحلي الإجمالي لقطاع غزّة والضفة الغربية مجتمعتين قبل الحرب.
وترى مصطفى من مجموعة الأزمات الدولية أن المسار الحالي للصراع يحول قطاع غزة إلى «مدينة خيام مدمرة»، وتشعر أنه «من غير المرجح أن يبذل المجتمع الدولي الكثير من الجهود للضغط على إسرائيل لحملها على تنفيذ أي رؤية بديلة أخرى في اليوم التالي».
هل سيأتي يوم تالٍ بعد ذلك؟
عندما زار بايدن إسرائيل في الأيام التي أعقبت هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول أعرب عن تعاطفه مع الشعب الإسرائيلي ودعم حقه في الرد بالقوة العسكرية. ولكنه نصحهم أيضا بتجنب الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، عندما أدت الرغبة في القضاء على التهديدات الأمنية إلى عقدين من الحروب المكلفة، والتوسع في المهام، وانتهاكات حقوق الإنسان التي أضرت بالمكانة الدولية لأميركا.
والحقيقة أن إسرائيل لا تحتاج إلى مثل هذا التحذير، فهي تعرف شيئًا أو شيئين عن الحروب الأبدية. خلال الجزء الأكبر من ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، احتلت إسرائيل أجزاء من جنوب لبنان. بدأت هذه المهمة كجهد للقضاء على المسلحين الفلسطينيين في جنوب لبنان، ثم توسعت للحفاظ على «منطقة أمنية» إلى جانب الميليشيات المسيحية المحلية لمنع الهجمات على شمال إسرائيل.
بحلول عام 2000، عندما كان الجنرال بيني غانتس، الذي أصبح فيما بعد زعيمًا للمعارضة الإسرائيلية وعضوًا سابقًا في حكومة نتنياهو، آخر جندي إسرائيلي ينسحب من لبنان، أصبح الصراع يُعرف باسم «فيتنام إسرائيل»، حيث قُتل مئات الجنود الإسرائيليين وآلاف المدنيين اللبنانيين.
قد يصبح «الاحتلال» المستقبلي لقطاع غزّة أكثر شبهًا بلبنان خلال هذه الحقبة، مقارنة بالاحتلال والاستيطان الحالي في الضفة الغربية أو الوضع في قطاع غزة قبل عام 2005.
لقد استجابت الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة مرارًا وتكرارًا، عندما فوجئت بـ"الهجمات الإرهابية"، بحملات عسكرية مفتوحة بهدف القضاء تمامًا على التهديد، ولكنها أدركت بعد فوات الأوان أن التكاليف أعلى مما تتخيل، بالنسبة لها وبالنسبة للسكان الخاضعين لسيطرتها. ومن المرجح أن تمر سنوات قبل احتساب تكاليف هذه العملية احتسابًا كاملًا.
إحالات:
[1] نُشرت المادّة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2024.
[2] نُفّذت الخطة بحذافيرها في جباليا، وجارٍ تنفيذها الآن في بيت لاهيا، دون أن تحظى بإدانة دولية واسعة.
التعليقات