20/10/2024 - 11:02

كيف غيّر السابع من أكتوبر إسرائيل من الداخل؟

أدى السابع من أكتوبر إلى تسريع تحويل بن غفير للشرطة الإسرائيلية إلى سلاح سياسي وتأسيس قوات شبه عسكرية يمينية متطرفة أخرى...

كيف غيّر السابع من أكتوبر إسرائيل من الداخل؟

جرّافة من غزّة تقتحم السياج في السابع من أكتوبر 2023 (غيتي)

يتحرَّك الإسرائيليون، بعد هجوم حماس الإجرامي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي صدورهم ألم لا يمكنهم التصالح معه، ألمٌ على الأشخاص الذين فقدوهم، وعلى المستقبل المحتمل الذي أصبح قاتمًا، وعلى ما كان يمكن القيام به لمنعه. تشعرُ أقلية من الإسرائيليين تشعر بهذا الألم أيضًا بسبب ما تفعله إسرائيل في قطاع غزّة، وبسبب ما أصبحوا عليه كإسرائيليين، أو ربما ما كانوا عليه دائمًا.

إن الكارثة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة غير مسبوقة، ولا تقارن بأي شيء سبقها. إنها جريمة حرب مستمرة منذ عام كامل، ولا نهاية لها في الأفق، وتشكل واحدة من أسوأ الكوارث التي صنعها الإنسان في القرن الحادي والعشرين، والقضية الأخلاقية الأهم في عصرنا. وعلى الرغم مما تشير إليه وسائل الإعلام السائدة الناطقة باللغتين الإنجليزية والألمانية في كثير من الأحيان، فإن هذه الكارثة لها فاعلٌ. بل يوجدُ مجتمع بأكمله وراء هذه المذبحة، وداعمٌ لهذه الإبادة لمكان بأكمله. ورغم أن حماس تتحمل بالتأكيد المسؤولية عن جرائمها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي أدت إلى الحرب، فإن إسرائيل تتحمل المسؤولية عما فعلته بقطاع غزّة.

لم يبدأ التحول المجتمعي الذي أدى إلى هذه الجرائم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إن الانزلاق التدريجي لإسرائيل نحو اليمين المتطرف مُستمرٌ منذ عشرين عامًا على الأقل، إن لم يكن لفترة أطول. وتعود جذوره الأيديولوجية إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ كانت سياسات التطهير العرقي والتوسع اليهودي من السمات المميزة للمشروع الصهيوني منذ بداية الاستيطان اليهودي المنظم في فلسطين في أوائل القرن العشرين. ولكن إذا كانت هذه الخصائص موضع نزاع تاريخي داخل المجتمع الإسرائيلي، فإن النتيجة الأكثر تأثيرًا للسابع من أكتوبر، هو ترسيخٌ وتوحيد أغلبية مؤيدة للحرب ومستعدة للقتال على نحو متزايد.

لقد تحطمت القشرة الليبرالية الديمقراطية الهشة التي أعطت اليهود شعورًا بالحياة الطبيعية وسط ما كان وما زال في واقع الأمر نظام الفصل العنصري، مما كشف عن هاوية سوداء قاتمة من الكراهية. يبدو الأمر وكأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول أيقظ كل العناصر البنيوية الأساسية للدولة اليهودية، أي الاعتماد غير المشروط على القوة العسكرية، والاعتقاد الضمني بأن الفلسطينيين أقل من البشر، والمطالبة بالولاء المطلق للعرق والأمة. إن هذه السمات الأكثر قسوة وقبحًا في مجتمعنا تخيفنا نحن الإسرائيليين الذين نعتقد أنه كان من الممكن اتباع مسار مختلف.

تمزق صادِمٌ في المجتمع الإسرائيلي

لقد شكلت أحداث السابع من أكتوبر نقطة تحول في الحياة الشخصية لكل إسرائيلي، فضلًا عن كونها شرخًا مؤلمًا في الوعي الجماعي الإسرائيلي. لقد ولّد ذلك اليوم المظلم، الذي أضفى عليه الطابع الأسطوري على الفور ووصفه مرارًا وتكرارًا بأنه أسوأ حدث في التاريخ اليهودي منذ الهولوكوست، شعورًا عامًا بعدم الأمان والتشاؤم، وفي نهاية المطاف استخفافًا انتقاميًا بحياة الفلسطينيين. وتظل هذه الصدمة المجتمعية في معظمها خارج سياقها، وتركز فقط على ذلك اليوم. ومع ذلك، فإن الحرب في قطاع غزة أحدثت أيضا خسائر فادحة في المجتمع الإسرائيلي بطرق أخرى عديدة تظل مخفية عادة وراء أهوال السابع من أكتوبر/تشرين االأول،وكل ما حدث منذ ذلك الحين.

لقد تقلصت المساحة المادية الفعلية المتاحة للمدنيين الإسرائيليين تقلصًا كبيراً منذ اندلاع الحرب. وفي الأيام الأولى من الحرب، أمرت السلطات الإسرائيلية نحو 300 ألف مواطن إسرائيلي يعيشون داخل الحدود المعترف بها دوليًا للبلاد بإخلاء منازلهم. وفي حين كان إخلاء المناطق الجنوبية ضروريًا؛ نظرًا لوجود الميليشيات الفلسطينية المسلحة، فإن إخلاء الجبهة الشمالية مع لبنان كان بمثابة احتياط اتُخِذ في لحظة ذعر وسط مخاوف من وقوع هجوم مماثل.

وعلى مدى عشرة أشهر، بدا هذا الإخلاء وكأنه أسوأ قرار استراتيجي اتخذته إسرائيل في الحرب. وقد أدى ذلك إلى اندلاع مناوشات متواصلة ومتزايدة الشدة على طول الحدود على مدار العام، وأخيرًا التصعيد الإسرائيلي الأخير في لبنان، بما في ذلك اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله والآن الغزو البري.

وقد عاد بالفعل العديد من سكان الجنوب، بسبب احتلال غزة وتدميرها وسيطرة الجيش الإسرائيلي على الحدود. ولكن في الشمال، على طول الحدود اللبنانية، لا يزال نحو ستين ألف نازح بعيدين، في حين أصبحت بلداتهم وكيبوتساتهم السابقة مدن أشباح لا يسكنها سوى جنود إسرائيليين، بينما تُدمر منازلهم ومزارعهم منهجيًا بنيران حزب الله المباشرة وحرائق الغابات اللاحقة.

لقد أدى إخلاء مجتمعات بأكملها إلى الفنادق ومراكز الضيافة إلى خلق مجموعة كبيرة من الإسرائيليين الذين أصبحوا بلا مأوى فعليًا. وقد دُمجت بعض الكيبوتسات جماعيًا في كيبوتسات أخرى في مناطق أكثر مركزية، ولكن عشرات الآلاف ما زالوا يتحركون في إسرائيل، ويعتمدون على أفراد الأسرة أو الزملاء، ويتساءلون عما إذا كان نزوحهم سيكون دائمًا. لا يستطيع أحد أن يقول إذا كانوا سيعودون يومًا ما.

إن فكرة أن إسرائيل خسرت الشمال هي واحدة من أقوى المشاعر فيما يتصل بالحرب، وربما تكون أعظم فشل للثقة في الدولة بعد كارثة السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وفي حين يرى بعض الناس أن فقدان السيادة هو الثمن الذي دفعه الإسرائيليون للهجوم المستمر على قطاع غزّة، فإن الحكومة استغلت واقع النزوح استغلالًا مُركَّزًا في الدعاية العدوانية التي تحث على توسيع الجبهة الشمالية، وهو ما شهدناه يتكشف الآن على مدى الأسابيع القليلة الماضية.

تسريع التحول الاستبدادي الشمولي

كان المجتمع الإسرائيلي بالفعل قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول في خضم معركة شرسة حول الإصلاح القضائي الذي اقترحته حكومة نتنياهو، والذي هدد بإضعاف القضاء ومنح سلطة غير مسبوقة للحكومة التنفيذية. وكان هذا الإصلاح جزءًا من مجموعة أوسع من السياسات التي تهدف إلى تمهيد الطريق لضم الضفة الغربية. كانت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الإصلاحات مستمرة منذ يناير/كانون الثاني، لكن يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول حشد كل المجتمع اليهودي الإسرائيلي حول العلم وسمح للحكومة، تحت غطاء الحرب، بمواصلة أجندتها الاستبدادية من خلال وسائل أخرى.

في الأسابيع الأولى التي أعقبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أطلقت إسرائيل موجة ضخمة من التحقيقات والاعتقالات والاتهامات ضد مواطنين فلسطينيين متهمين بـ «التحريض على العنف» و«دعم الإرهاب». وقد اعتُقل معظمهم بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تعبيرات التعاطف والألم لمعاناة سكان قطاع غزّة. وفُتحت مئات التحقيقات، ومُنح النائب العام الشرطة إذنًا واسع النطاق باحتجاز المشتبه بهم. وتعرض المواطنون لفترات احتجاز مطولة، حيث أبلغوا عن تعرضهم للعنف الجسدي والمعاملة المهينة. كما عانى الصحفيون الفلسطينيون العاملون في وسائل الإعلام الدولية من الانتهاكات والاعتقالات والقيود التعسفية، وفي كثير من الحالات، الحظر القانوني.

وقد استكملت حملة القمع التي شنتها الشرطة بمضايقات واسعة النطاق، وعمليات كشف هويات الأشخاص، والعنف الذي نظمه المدنيون والجماعات اليمينية -الذين لا يواجهون أي انتقام من جانب الشرطة تقريبًا. وتعرض الفلسطينيون للتهديد في أماكن العمل والمدارس والأماكن العامة، مما خلق أجواء من الترهيب الشامل وإسكات الأصوات. وينتشر التحرش على نطاق واسع بشكل خاص في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، في حين لا تقدم السلطات عادة سوى القليل من الحماية أو لا توفر أي حماية على الإطلاق للفلسطينيين.

إن هذه الحملة القمعية ضد الفلسطينيين والناشطين المناهضين للحرب هي جزء من عملية تسييس أوسع نطاقًا وخطيرة للغاية للشرطة، كما يزعم نوا ليفي ومعلقون آخرون. بدأت السيطرة الممنهجة لليمين المتطرف على الشرطة بتعيين المتطرف الكاهاني إيتمار بن غفير وزيرًا للأمن القومي.

أقر الكنيست في ديسمبر/كانون الأول 2022، وجزءًا من الشروط المسبقة لتشكيل حكومة بنيامين نتنياهو «تعديل بن غفير» لنظام الشرطة، والذي نقل صلاحيات كبيرة من مفوض الشرطة إلى الوزير. وبعد فترة وجيزة، بدأ بن غفير سلسلة من التعيينات السياسية في المناصب العليا في الشرطة، وطرد القادة الذين عارضوا أجندته وعزز من سلطة الموالين له، خاصة إذا أظهروا ميلًا نحو العنف واستعدادًا لقمع الاحتجاجات بعنف. ويقول الصحافيون إن هذه التعيينات تمت بشكل مخالف للأنظمة ومن دون إشراف قضائي، مما أدى إلى تعزيز وجود ضباط من اليمين المتطرف علنيًا ممن لديهم سجلات وحشية وقضايا تأديبية.

بن غفير

لقد أدى السابع من أكتوبر إلى تسريع تحويل بن غفير للشرطة الإسرائيلية إلى سلاح سياسي وتأسيس قوات شبه عسكرية يمينية متطرفة أخرى. وفي الأسابيع التي أعقبت هجوم حماس، أشرف بن غفير على التوزيع الواسع للأسلحة النارية على المدنيين، مما أدى إلى تخفيف القيود المفروضة على الترخيص وزيادة عدد مالكي الأسلحة الخاصة بنسبة 64٪. وبالإضافة إلى ذلك، وردت أنباء عن إصدار نحو اثني عشر ألف ترخيص بصورة غير قانونية، مما أدى إلى فتح تحقيق في الوزارة.

كما أنشأ بن غفير حوالي تسعمائة «وحدة للاستجابة للطوارئ» مكونة من متطوعين مدنيين مسلحين ببنادق هجومية. تعمل هذه الوحدات، التي أنشئت على عجل دون تدريب أو انضباط أو إشراف مناسب، الآن في المدن والبلدات في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة (بما في ذلك القدس الشرقية والمدن اليهودية الفلسطينية المختلطة داخل الخط الأخضر)، وهناك مخاوف جدية من أنها سوف تستخدم القوة غير المصرح بها مما يؤدي إلى صراع مسلح بين المدنيين.

توسيع نطاق حكم المستوطنين

وفي حين ركز بن غفير على إشعال الحرائق داخل إسرائيل، أطلق شريكه بتسلئيل سموتريتش، ممثل المستوطنين اليهود المتطرفين في الحكومة، لناخبيه حرية التصرف داخل الضفة الغربية المحتلة.

وبموجب الاتفاق الائتلافي، كُلّف سموتريتش، بالإضافة إلى منصبه وزيرًا للمالية، بمسؤولية الإدارة المدنية ومنسق أعمال الحكومة في المناطق المُحتلة، وهما الهيئتان اللتان تحكمان كل أشكال الحياة المدنية في المنطقة (ج) في الضفة الغربية. كما فُوّض بإنشاء هيئة مدنية جديدة تسمى «إدارة المستوطنات»، والمسؤولة عن جميع جوانب الحياة في المستوطنات التي كانت تحت السلطة العسكرية في السابق. وقد مهَّد هذا التعديل الإداري الطريق بهدوء أمام الضم الفعلي للمستوطنات.

استغل سموتريتش منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول كامل المسؤوليات الموكلة إليه لتعزيز التطهير العرقي وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. وبحلول أبريل/نيسان 2024، كان العام بالفعل عامًا قياسيًا لإعلان الأراضي المحتلة «أراضي دولة»، وتحديدها لبناء المستوطنات في المستقبل. كما حُطِّمت أرقام قياسية في معدلات الموافقة على خطط البناء الجديدة ومحاولات إضفاء الشرعية بأثر رجعي على البؤر الاستيطانية والمنازل غير القانونية، بعضها على أراض فلسطينية مملوكة ملكية خاصة. بُني منذ بداية الحرب أربعة وعشرون موقعًا عسكريًا جديدًا، وعبِّدت عشرات الطرق الجديدة.

وصل عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين إلى مستويات قياسية قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقد تفاقم منذ ذلك الحين، وغالبا ما تُرتكب جرائم المستوطنين بحماية الشرطة والجيش، إن لم يكن بمشاركة فعالة منهما. وقد سُجّل ما يقرب من ألف هجوم عنيف هذا العام، بعضها شارك فيه مئات من مثيري الشغب، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن واحد وثلاثين فلسطينيًا. ويقول الناشطون إنه بسبب تجنيد العديد من المستوطنين كجنود احتياطيين، أصبح من المستحيل التمييز بين المستوطنين والجنود، ويتمتع المهاجمون بحصانة شبه كاملة. وبينما كانت الحرب مستعرة في قطاع غزّة، طُرد تسعة عشر تجمعًا رعويًا في وادي الأردن، وجُرّدوا من أراضيهم. ويعتبر الناشطون اليساريون الذين يسعون إلى الدفاع عن هذه المجتمعات أيضًا أهدافًا منتظمة.

تعميق نزع الصفة الإنسانية والانعزالية

إن مظاهر الكراهية والحط من إنسانية الفلسطينيين التي نشهدها حاليا غير مسبوقة، حتى في تاريخ إسرائيل الطويل من الحروب الدموية. باستثناءات بارزة، تتراوح ردود الفعل العامة تجاه المذابح المستمرة، والتجويع، وإرهاب مليوني إنسان في قطاع غزّة بين اللامبالاة المتهورة والرغبة الشديدة في سفك الدماء. وكما تشير سجلات قضية جنوب إفريقيا المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، فإن صناع القرار الإسرائيليين، بدءًا من نتنياهو ويوآف غالانت إلى أسفل، أصدروا مئات التصريحات التي تنم عن نية الإبادة الجماعية، مثل تصريح سموتريتش الأخير الذي قال فيه إنه قد يكون «مبررًا وأخلاقيًا» تجويع مليوني شخص حتى الموت.

إن هذا التجريد العميق من الإنسانية كان مدفوعًا بصدمة السابع من أكتوبر، لكنه لم يولد بأي حال من الأحوال في ذلك اليوم. بل إن هذا ليس سوى نتيجة عقود من الحصار والحظر، حيث مارست إسرائيل سيطرة كاملة على العديد من جوانب الحياة في قطاع غزّة، ولكنها لم يكن لها أي اتصال تقريبا مع شعبها أو حكومتها. لقد كان قطاع غزّة بمثابة أرض ظل في الوعي الإسرائيلي: مكان مليء بالشر المطلق والخطر الذي لا يعرف عنه معظم الناس شيئًا تقريبًا ولا يمكن أن يكون هناك أي اتصال معه.

وعُزز هذا التجريد من الإنسانية من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية السائدة، والتي تتبنى طواعية الخطاب العسكري. وقد عمدت وسائل الإعلام الإسرائيلية منهجيًا إلى قمع التقارير المتعلقة بالإصابات ومعاناة المدنيين في قطاع غزّة، حيث لم تستشهد معظمها بمصادر أخرى غير المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي. وباستثناء عدد قليل من المنافذ الإعلامية المستقلة والتقارير العرضية في صحيفة هآرتس، فإن الإسرائيليين لا يتعرضون للصور والتقارير المروعة التي يشاهدها العالم بأسره. وكما ذكرت هاغار شيزاف مؤخرًا، فإن الجيش الإسرائيلي يمنع الصحفيين من الوصول إلى قطاع غزّة إلا عندما يرافقون الوحدات العسكرية، مما يضمن أن تغطيتهم تتوافق مع وجهات النظر الإسرائيلية. وكان إغلاق الحكومة لعمليات الجزيرة في إسرائيل بمثابة هجوم واضح على حرية الصحافة وقدرة الجمهور الإسرائيلي على الوصول إلى وجهات نظر بديلة.

نازحون فلسطينيّون في غزّة

إن التعتيم الإعلامي شبه الكامل على أي أخبار تتعلق بمعاناة الفلسطينيين في قطاع غزّة يجعل الإسرائيليين غير مبالين ليس فقط بالدمار الذي يلحقونه، بل وأيضًا بأي اختلاف في الرأي داخل المجتمع الفلسطيني. لقد أصبح يُنظر إلى الفلسطينيين وحلفائهم في قطاعات أوسع من المجتمع الإسرائيلي على أنهم مجموعة مكرسة بالكامل لقتل اليهود، في غزة، والضفة الغربية، وحتى في الحرم الجامعي الأميركي. يخدم هذا المفهوم الرواية السائدة التي تقول بأن العمل العسكري غير المنتهي وحده قادر على حماية الإسرائيليين من 7 أكتوبر آخر.

بناء إسبرطة اليهودية

لقد شهدنا على مدار العام الماضي مزيدًا من العسكرة لمجتمع كان بالفعل مُعسكرٌ إلى حد كبير. يتبنّى الإسرائيليون اليهود من كافة شرائح المجتمع بفاعلية الرؤية التي يروج لها اليمين الديني لإسرائيل: رؤية أسبرطة اليهودية على شرق البحر الأبيض المتوسط، أمة من المحاربين تحت إرشاد الله، تشن حربًا صليبية مقدسة وأبدية ضد العرب.

كانت الرواية العسكرية السائدة حول أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول هي أن إسرائيل اعتمدت اعتمادًا مفرطًا على فكرة «جيش صغير وذكي» يعتمد على البراعة التكنولوجية، والاستخبارات عالية الفعالية، والقوات الجوية القوية. لقد أدى انهيار دفاعات جيش الدفاع الإسرائيلي في قطاع غزّة إلى إجماع الخبراء العسكريين الإسرائيليين على أن الجيش يحتاج إلى المزيد من الرجال والدبابات للدفاع عن الحدود وإدارة الاحتلال. ومع ذلك فإن التوسع الدائم للقوات المسلحة في دولة صغيرة نسبيًا مثل إسرائيل من شأنه أن يخلف عواقب اجتماعية واسعة النطاق.

ويفترض كثيرون أن هذه العسكرة المفرطة، بما في ذلك إعادة احتلال قطاع غزّة على المدى الطويل وربما «شريط أمني» في جنوب لبنان، سوف تتطلب تمديد الخدمة العسكرية للرجال. وتتضمن الأرقام التي ذكرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية تمديد الخدمة الإلزامية من ثلاث إلى أربع سنوات، وتحديد الخدمة الاحتياطية بما يصل إلى مائة يوم في السنة. إن فرض التجنيد الإجباري على المجتمع الأرثوذكسي المتشدد، والذي كان بالفعل قضية مثيرة للجدل، أصبح الآن مسألة عسكرية ملحة.

بمعنى آخر، تستعد إسرائيل لحالة حرب دائمة.

وتترتب على هذه الرؤية المستقبلية عواقب اقتصادية وخيمة أيضًا. الحرب الدائمة تعني اقتصاد حرب دائم. إن الزيادة في الاستثمار في الجيش، أي في أنظمة الأسلحة والتدريب والأفراد وغير ذلك، سوف تأتي على حساب الخدمات الاجتماعية. علاوة على ذلك، فإن العبء المتزايد للخدمة العسكرية من شأنه أن يؤثر تأثيرًا مباشرًا على إنتاجية إسرائيل بسبب فقدان العمالة في الاقتصاد المدني، لأن الجنود لا ينتجون قيمة اقتصادية.

ولكن التكاليف المباشرة للحرب لا تمثل سوى التأثير الفوري لهذا التحول الإسبرطي[1] الذي تقوده إسرائيل. إن حملة التدمير العشوائي التي تشنها إسرائيل تهدد بتحويلها إلى دولة منبوذة على الساحة العالمية، على الرغم من الدعم المستمر الذي تتلقاه من الولايات المتحدة وألمانيا. إن الاقتصاد الإسرائيلي المتكامل عالميًا، والذي تدعمه قطاعاته التكنولوجية، لا يمكنه أن يتحمل هذه العزلة لفترة طويلة. وسيتعين على التخطيط الاقتصادي الإسرائيلي أن يضاعف الجهود بشأن الأمن السيبراني، والتسليح، واستخراج الغاز الطبيعي للحفاظ على مستويات الناتج المحلي الإجمالي قريبة من الناتج المحلي الإجمالي الغربي في المتوسط على الأقل. ولكن حتى لو تمكن اقتصاد الحرب من الصمود، فإن مستويات المعيشة سوف تكون غير قابلة للمقارنة مع تلك التي اعتاد عليها الإسرائيليون في العقود الأخيرة.

وأمام هذا الوضع المتفاقم، فإن العديد من الإسرائيليين الذين يتمتعون بالإمكانات والوسائل، أي الخبرة المهنية وجواز السفر الأجنبي، سيكونون بصدد مغادرة دولتهم. سواء كانوا يؤيدون الحرب أم لا، فإنهم لا يريدون العيش في إسبرطة اليهودية. ويبدو هذا الاتجاه أكثر وضوحًا بين قطاعات المجتمع التي تحتاج إسرائيل إلى بقائها اقتصاديًا، أي العاملين في مجال التكنولوجيا والأكاديميين والأطباء، على سبيل المثال لا الحصر. ومع ارتفاع الأسوار الحرفية والمجازية حول إسرائيل، فإن عملية النزوح بدأت بالفعل.

فشل المعارضة

وفي مواجهة الصدمة المجتمعية، والأجواء العامة المفرطة في العسكرة، والهجوم الشرس من السياسات المناهضة للديمقراطية والتوسعية، فشلت المعارضة لحكومة نتنياهو، في البرلمان وفي الشوارع، تمامًا في شن استجابة مناسبة. وفي حين أن هناك الكثير من الانتقادات لفشل الحكومة في إدارة الحرب، فإن أقلية صغيرة فقط هي التي تعترض على الحرب نفسها.

لقد أصبح الخوف والغضب تجاه الحكومة أقوى من أي وقت مضى بين قطاعات كبيرة من الجمهور، الذين يحملونها المسؤولية عن فشلها في منع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والأهم من ذلك، التخلي عن الرهائن والمنطقة الشمالية من إسرائيل. في الاحتجاجات العامة الضخمة طوال العام (وخاصة بعد مقتل ست رهائن في أغسطس/آب)، رفع المتظاهرون لافتات تصف نتنياهو ووزراءه بالقتلة، وإن لم يكن بسبب قتلهم أكثر من واحد وأربعين ألف شخص في قطاع غزّة، ولكن لرفضهم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان من الممكن أن ينقذ الرهائن.

لقد سعى اليسار الإسرائيلي الراديكالي والمهمش، والذي يشارك في هذه المظاهرات كجزء من كتلة «مناهضة الاحتلال» ويمثله في الكنيست حزب "حداش" (الجبهة) العربي اليهودي، إلى ربط مصير الرهائن بمصير أهل قطاع غزّة، الذين يعانون جميعًا من الحرب. لكن الحقيقة المرة هي أن الأغلبية الساحقة تقبل إلى حد كبير الرواية القائلة بأن العدوان العسكري هو السبيل الوحيد لاستعادة الأمن.

وقد غيّر يائير لابيد، زعيم المعارضة، لهجته في الآونة الأخيرة، حيث دعا صراحة إلى إنهاء الحرب، ولكنه يجد نفسه ضمن الأقلية. وقد اقترح جنرالات سابقون أكثر تشددَا مثل بيني غانتس ويائير جولان، فضلا عن الرجل القوي اليميني أفيغدور ليبرمان، وهم جميعًا منتقدون شرسون لنتنياهو، خططًا لغزو لبنان. وانضم جدعون ساعر، وهو زعيم معارضة يميني آخر، إلى حكومة نتنياهو مؤخرًا لدعم الحملة العسكرية في لبنان، مما يزيد بشكل كبير من فرص بقائها في السلطة حتى عام 2026.

ورغم أن الضغوط التي أحدثتها حركة الاحتجاج كانت السبب الرئيس في إطلاق سراح 105 من الرهائن في الصفقة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإن المحتجين يواجهون طريقًا مسدودًا طالما فشلوا في معالجة القضايا الأخلاقية والسياسية الأوسع نطاقًا التي تحيط بالحرب. تتعامل جميع الأطراف مع إنهاء الحرب باعتباره ثمنًا يجب دفعه أو لا يجب دفعه مقابل عودة الرهائن، وليس هدفًا في حد ذاته.

وقد تجلى هذا التناقض بوضوح في الحملة الأخيرة لإعادة الرهائن ثم العودة إلى القتال في قطاع غزّة. إن هذه الفكرة، التي هي في نفس الوقت فكرة قاسية وغير واقعية، تمثل أكثر من أي شيء آخر محاولة يائسة للتأثير على رأي الجمهور المخمور بالحرب. ولكن هذا يخدم الحكومة، التي تستطيع بسهولة أن تتهم المتظاهرين بأنهم غير عقلانيين ومحبطين، مما يسمح لنتنياهو بتصوير نفسه على أنه «مفاوض صعب» في مواجهة حماس والولايات المتحدة. ومن خلال فشلها في تحدي الفرضية الأساسية التي تقوم عليها تصرفات الحكومة، فإن المعارضة تعمل في نهاية المطاف على تعزيز هذه الفرضية.

وبعيدًا عن العوامل النفسية والاجتماعية الموضحة أعلاه وتأثيرات التجريد الشامل من الإنسانية، فإن تردد المعارضة السائدة في الدعوة إلى وقف إطلاق النار ينبع من غياب أي رؤية سياسية بديلة. ومن المفهوم أن الإسرائيليين يشعرون بالرعب من العودة إلى الوضع الذي كان سائدًا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول في قطاع غزّة. يدرك أغلبهم أن الوعد بـ «القضاء» على حماس غير واقعي، وأن الإبقاء على القوات العسكرية في غزة ولبنان، ناهيك عن إعادة بناء المستوطنات، يعني حرب استنزاف لا نهاية لها.

ولكن لم يقترح أي من الأطراف الرئيسة حلًا مختلفًا. وينتقد كثيرون نتنياهو لسماحه لحماس بحكم القطاع وتعزيز قوتها بدلًا من السلطة الفلسطينية، ولكن لم يضع أي من الأحزاب الصهيونية الأخرى حل الصراع على رأس أولوياتها أيضًا.

ربما كان إعلان المصالحة الذي وقع بين حماس وفتح في بكين في يوليو/تموز الماضي قد قدم فرصة لحل بديل لو لم تقم إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية، الذي يعد معتدلًا داخل حماس، في الأسبوع التالي. إن احتمال تشكيل حكومة وحدة فلسطينية تشرف بشكل مشترك على إعادة إعمار قطاع غزّة بدعم من المجتمع الدولي أفضل بكثير من أي مسار آخر تقترحه إسرائيل. إن الحلول الحقيقية للوضع في القطاع، من ناحية إعادة الإعمار، ورفع الحصار، وفتح حدودها تدريجيا من خلال اتفاقيات إقليمية، لم تكن على أجندة إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي بالتأكيد ليست كذلك الآن.

المُساعدة من الخارج

وهكذا يجد الإسرائيليون أنفسهم محاصرين بين الخوف الشديد من التهديدات الخارجية من ناحية ومن الجو الفاشي المتنامي في الداخل من ناحية أخرى. إن الإيمان بحتمية العدوان العسكري باعتباره الحل الوحيد الممكن يضع إسرائيل في مأزق مزدوج.

تزدهر دعاية نتنياهو القائمة على الخوف والحرب في هذا الجو. وقد أدى العدوان الإسرائيلي الحالي في لبنان وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلى انتعاش كبير في الدعم لحكومة رئيس الوزراء. وفي حين احتُفل بالنجاح العسكري الأولي لهذه الهجمات في إسرائيل، فإنها تعني المزيد من أشهر الحرب وتخاطر بتكرار الفظائع التي ارتكبت في قطاع غزّة، كل هذا في حين لا تقدم مستقبلاً واضحاً للإسرائيليين النازحين، الذين لن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم إلا إذا توصِّل إلى تسويات تفاوضية.

وفي ظل هذه الظروف، هناك أمل ضئيل في حدوث تغيير من داخل النظام السياسي الإسرائيلي. وفي حين أن البعض ما يزال مصممًا على مواصلة الاحتجاج، فإن الصدمة التي أحدثتها ثورة السابع من أكتوبر/تشرين الأول وموجات القمع التي تلتها وجهت ضربات قاتلة للمعسكرين الليبرالي واليساري في البلاد. وفي ظل هذا الواقع، فإن التدخل الدولي الحاسم، بدءًا بحظر الأسلحة الموثوق به، هو وحده القادر على وقف الحرب على غزة ولبنان.

وعلى المدى الطويل، يشكل الضغط الدولي أيضًا عنصرًا أساسيًا في توليد التغيير السياسي الضروري داخل المجتمع الإسرائيلي. ومن خلال إظهار التكلفة الفعلية للسلوك المارق لدولتهم للإسرائيليين، يمكن للعالم أن يساعد في إعادة بناء قوة في السياسة الإسرائيلية تقول لا لرؤية اليمين المتطرف بشأن التحول الإسبرطي، وتروج لنهج مختلف في التعامل مع علاقة إسرائيل بالفلسطينيين والمنطقة ككل.


إحالات:

[1] استعمل المؤلفون كلمة «Spartacization»، والتي تعني تحويل المجتمع الإسرائيلي إلى نموذج يشبه إسبرطة القديمة، التي كانت معروفة بالتطرف العسكري، والبنية الاجتماعية الصارمة، والتركيز على الحرب كجزء مركزي من الحياة. باستخدام هذا المصطلح، يُبرز الكتّاب التحول نحو دولة أكثر عسكرة تركز بكثافة على الخدمة العسكرية وإستراتيجيات الدفاع والأمن الوطني على حساب جوانب أخرى من المجتمع مثل الخدمات الاجتماعية أو الإنتاجية الاقتصادية المدنية. ولا يعني المصطلح فقط التركيز على الجاهزية العسكرية، ولكن أيضًا تحولًا أوسع في المجتمع، حيث تتفوق قيم الانضباط والتضحية والحرب الدائمة على الحياة المدنية (المُترجم).

التعليقات