12/04/2024 - 12:19

هل خسرت الصهيونية قدرتها على الإقناع؟

يميل الإسرائيليون، بطبيعة الحال، إلى النظر إلى حل الدولة الواحدة باعتباره حكمًا بالإعدام، ويصرون على أن الأغلبية الديموغرافية اليهودية، التي يجب أن يُحافظ عليها إلى الأبد، وبتكلفة باهظة، وهي وحدها القادرة على ضمان بقاء اليهود...

هل خسرت الصهيونية قدرتها على الإقناع؟

(Getty)

أخبرني ستيف نامان (Steve Naman) هذا الخريف: أن تكون معارضًا، فهذا منصبٌ غير مدفوع الأجر. هذا الرجل البالغ من العمر 77 عامًا والمقيم في ضواحي أتلانتا هو الرئيس منذ فترة طويلة (والمحاسب ومدير الموقع والمصحح اللغوي) للمجلس الأميركي لليهودية (American Council for Judaism)[1]، وكان هذا المجلس، لعقودٍ طويلة، الحامل الوحيد والمحاصَر للواء المناهض للصهيونية في حركة الإصلاح[2]. وفي أوجه، ضم المجلس ما يصل إلى 20 ألف عضو، وكان مديره المناضل، الحاخام إلمر بيرغر (Elmer Berger)، شوكة يمكن الاعتماد عليها في خاصر المؤسسة الصهيونية. كان بيرغر مدافعًا شرسًا عن الاندماج اليهودي الأميركي، وهو تحقيق، في نظره، للعالمية التي اعتنقها الأنبياء العبرانيون. وربما الأهم من ذلك أنه كان معارضًا شرسًا للقومية اليهودية، التي اعتبرها دعوة إلى الكارثة.

وأضاف نامان، الإداري المتقاعد من شركة ورق، والمتطوع في منظمة بيغل ريسكيو (Bagel Rescue) غير الربحية التي تديرها ابنته: «من المؤسف أن جميع التوقعات التي قدمها المجلس قد تحققت إلى حد كبير». وقبل عدة أسابيع، شن مسلحون فلسطينيون هجومًا مفاجئًا على المجتمعات الإسرائيلية والمنشآت العسكرية بالقرب من حدود قطاع غزّة، مما أسفر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي[3]، معظمهم من المدنيين. وعلى الرغم من أن المفاوضات مستمرة، إلا أن حماس ما زالت تحتجز حوالي 240 رهينة[4]. وفي الوقت نفسه، تعرض قطاع غزّة لقصف إسرائيلي عنيف، وقُتِل ما يُقدّر بنحو 32,975 فلسطينيًا[5]، غالبيتهم من المدنيين، وتشريد أكثر من 2 مليون فلسطيني. وأشار نامان إلى محنة الفلسطينيين على مدى 75 عامًا الماضية، وقال: «ماذا اعتقد الناس أنه سيحدث؟ هل توقعوا أن يقول الغزيون: نحن نقبل العيش في ظروف فقيرة لبقية حياتنا؟»

إذا كانت اليهودية المناهضة للصهيونية قد بدت منذ فترة طويلة وكأنها تمثل في اسمها تناقضًا لفظيًا، فيمكن إرجاع الأمر إلى عامليْن: المحرقة، التي أقنعت العديد من اليهود بأنهم لا يستطيعون أبدًا أن يعهدوا برفاهيتهم إلى أغلبية غير يهودية، وإلى الجهد الفعال والملحوظ للمؤسسة الصهيونية لنسج مشروع الدولة القومية في نسيج الحياة اليهودية. تغيَّرت الأمور الآن: بعد أيام قليلة من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كنت أقود دراجتي على طول متنزه بروسبكت بارك (Prospect Park) في بروكلين وشاهدت مظاهرة أمام المبنى السكني للسيناتور تشاك شومر (Chuck Schumer)[6]. قضيت الأسبوع مستغرقًا في الأخبار، وأنا أكافح من أجل استيعاب ضخامة وقسوة هجوم حماس، وكنت مرعوبًا من قسوة الرد العسكري الإسرائيلي. وبينما كان المتظاهرون، الذين كان العديد منهم يحملون لافتات مكتوب عليها «ليس باسمي NOT IN MY NAME»، يسيرون على الطريق المؤدي إلى ساحة الجيش الكبرى (Grand Army Plaza)، لاحظت أن بعضهم كانوا يرتدون الطليس [الطليسان] والقبعات اليهودية الكيباه [والتي تعرف باليارمولكه أيضًا]، ووجدت نفسي متأثرًا بما رأيتُ. أذهلني هذا الاحتجاج الأول الذي نظمته منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام (Jewish Voice for Peace) بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهي مجموعة لم أسمع بها من قبل، كرد فعل مرحب به على ما كنا نشهده، وكان رد فعل يهوديًا عميقًا. رَكنتُ دراجتي وانضممت إليهم.

أذكر هذا لأكون صريحًا تمامًا: أنا لستُ مراقبًا موضوعيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أنا يهودي علماني، ولدي مجموعة خاصة من المشاعر تجاه إسرائيل، مزيجٌ محيرٌ من التقدير، والفضول، والألم، وأحيانًا الخزي. لم أعتبر نفسي من قبل معاديًا للصهيونية. لكن تغيرت وجهة نظري في الآونة الأخيرة، عندما شاهدت صور جثث الأطفال الهامدة، واستمعت إلى الخطاب اللاإنساني الصادر عن السياسيين والجنود الإسرائيليين، ولاحظت الرد اللاذع والحاد للمؤسسة الصهيونية الأميركية على الدعوات المؤيدة للفلسطينيين.

أخبرني نامان أن الحاخام بيرغر كان يتعرض للذم والعِداء لسنوات بسبب موقفه المناهض للصهيونية، وتُجوهل في النهاية. وتراجع عدد أعضاء المجلس الأميركي لليهودية بعد انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967. ولكن فجأة، لم يعد نامان وحيدًا. يُظهر الشباب الأميركيين اليهود استعدادًا جديدًا للتشكيك علنًا، وأحيانًا للإدانة بصوت عالٍ، لفكرة الدولة اليهودية. وكانت مجموعات مثل الصوت اليهودي من أجل السلام وإذا ليس الآن، فمتى؟ (IfNotNow) في طليعة بعض المظاهرات الأكثر فعالية المناهضة للحرب التي نشهدها منذ عقود. (إن مشهد مئات اليهود الذين يرتدون قمصانًا سوداء، ويحتلون محطة غراند سنترال Grand Central Station[7] بشكل خاص لا تمحى من المخيلة). ما زالوا ليسوا أغبية بالطبع. أصر مسؤول تنفيذي في شركة علاقات عامة مؤيدة لإسرائيل أُطلِقت حديثًا على تسميتهم «ضجيج بالأساس»، ويتفق معه جيل تروي (Gil Troy)، أستاذ تاريخ أميركا الشمالية في جامعة ماكغيل (McGill University) ومؤلف كتاب الأفكار الصهيونية (The Zionist Ideas)، «أقول فقط، بصفتي مؤرخًا، ضعوا الأمر في نصابها الصحيح»، وعقد مقارنة بين 290 ألف شخص حضروا «المسيرة من أجل إسرائيل» في ناشونال مول في نوفمبر/تشرين الثاني وبين مسيرة ضمّت 150 شخصًا من تنظيم الصوت اليهودي من أجل السلام وإذا ليس الآن، فمتى؟ في الليلة التالية خارج مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية (Democratic National Committee) في واشنطن العاصمة.

من وجهة نظرِ ديريك بنسلار (Derek Penslar)، مدير مركز هارفارد للدراسات اليهودية ومؤلف كتاب الصهيونية: دولة عاطفية (Zionism: An Emotional State)، فإن الأمر لا يتعلق بالأرقام. وقال: «لهؤلاء الشباب أهمية فعلية»، مضيفًا أن اليهود الأكثر انتقادًا لإسرائيل يتركزون الآن في مؤسسات النخبة، مثل جامعات رابطة اللبلاب (أو رابطة الجامعات المرموقة Ivy League)، «ويميلون لأن يكونوا متميزين وأذكياء وناجحين للغاية، وسوف يستمرون في شغل مناصب السلطة والمناصب ذات الفاعلية، وسيكون لوجهات نظرهم تأثير مضاعف».

لقد كانت هذه المجموعة الصغيرة بالفعل بمثابة رد قوي على الفكرة التي عبرّ عنها جوناثان غرينبلات (Jonathan Greenblatt)، الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)[8]، مؤخرًا: «معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية. نقطة وسطر جديد». وأثارت تعليقاته التي وصف فيها جماعات المناصرة المؤيدة للفلسطينيين مثل طلاب من أجل العدالة في فلسطين (Students for Justice in Palestine) والصوت اليهودي من أجل السلام بأنها «إحدى صور اليمين المتطرف» انتقادات حادة، ليس أقلها من موظفيه. إذا كان رد فعل غرينبلات الشرس يعكس لمحة من الذعر، فليس من الصعب معرفة السبب: فقد خففت هذه الحركة الناشئة بالفعل قبضة اللوبي الإسرائيلي الشهيرة على المؤسسة السياسية. ويمكن ملاحظة ذلك، على سبيل المثال، في تحدي القيادة الديمقراطية في مجلس النواب للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، في تأييدها للمرشح التقدمي الحالي سمر لي (Summer Lee) من ولاية بنسلفانيا.

بعد مرور نحو 75 عامًا على تأسيس إسرائيل، مات الإجماع الصهيوني، الذي وصفه ماثيو بيركمان (Matthew Berkman)، أستاذ الدراسات اليهودية في جامعة أوبرلين، بسخرية أنه كان عصر «اليهودييْن، برأي واحد». وحتى قبل الجولة الحالية من الأعمال العدائية، وجدت دراسة استقصائية أن ربع يهود الولايات المتحدة يعتبرون إسرائيل «دولة فصل عنصري»، ويعتقد 22% منهم أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية. وأخبرني شاؤول ماغِد (Shaul Magid)، زميل الدراسات اليهودية المتميز في كلية دارتموث ومؤلف كتاب ضرورة المنفى (The Necessity of Exile): «أعتقد أن اليهود الأميركيين منكسرون إلى حدٍ ما، ومنقسمون جيليًا». ولا يقتصر التغيير على اليهود الأميركيين إذ في أظهر استطلاع للرأي شهر مارس الماضي للمرة الأولى أن الديمقراطيين الأميركيين ككل كانوا أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين من الإسرائيليين (بنسبة 49% إلى 38%). ويرى رشيد الخالدي، أستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب حرب المئة عام على فلسطين، أن هذا التحول يعكس «التعطش إلى العدالة بين الشباب». وأشار الخالدي إلى أن إسرائيل دولة مزدهرة يهيمن عليها البيض: «إنهم يفكرون فيها كما يفكرون في الولايات المتحدة من حيث الظلم وعدم المساواة». وكما قال آيب فوكسمان (Abe Foxman)، المدير السابق لرابطة مكافحة التشهير، في الفيلم الوثائقي الإسرائيلية (Israelism) الذي صدر عام 2023 والذي أثار جدلًا شديدًا: «عندما نقول إننا نخسر الجيل الشاب، فنحن نقصد أننا قد خسرناهم».

وقد سعى عدد من المعلقين المؤيدين لإسرائيل إلى إلقاء اللوم على تيك توك، وهي تهمة إشكالية فيها، إلا أنها تحتوي على جزءٍ من الحقيقة. من الواضح أن مجموعات المناصرة الصهيونية، التي أظهرت ذات يوم موهبة هائلة في تشكيل الرأي العام، تخسر المعركة الرقمية لكسب القلوب والعقول، بعد أن تفاجأت على ما يبدو بتراجع سلطة مصادر الأخبار التقليدية. وقال الخالدي: «بالنسبة لجميع الانتقادات الموجهة من اليمين إلى وسائل الإعلام الرئيسة، إلا أنني أعتقد أنها كانت ركيزة مهمة للغاية للرواية الإسرائيلية إلى حد كبير على مر السنين، ومن غير المرجح أن يعيرها الشباب أي اهتمام. العديد من الطلاب الذين أعرفهم يشاهدون البث المباشر من قطاع غزّة من أشخاص يعرفونهم ويثقون بهم».

تجمع المتظاهرون في مارس/آذار 2017 في واشنطن سكوير بارك في مدينة نيويورك للمشاركة في مسيرة الجدات اليهوديات المناصرات لفلسطين (Bubbies for Palestine)

ومن المفارقات أن إسرائيل قد تكون وقعت في شراك براعتها في إرسال الرسائل منذ فترة طويلة: حتى جواهر الهسبرة الثمينة («الجيش الأكثر أخلاقية في العالم»، «لا شركاء للسلام»، «إنهم لا يفوتون أي فرصة لتفويت فرص السلام»، وغيرها) صارت قديمة، وأعطى قمع الرواية الفلسطينية لظهورها المفاجئ عبر قنوات بديلة قوة كاشفة.

ومع استمرار الصراع، خضعت جوانب أخرى من القصة الصهيونية لمزيد من التدقيق والتفحص. يمكن لمناهضي الصهيونية أن يستشهدوا بمذكرات تيودور هرتزل (Theodor Herzl)، مؤسس الصهيونية السياسية، والتي يوضح فيها خطته «لبث الروح في اليهود المفلسين عبر الحدود». أو كما قال يوسف فايتز (Yosef Weitz)، زعيم الصندوق القومي اليهودي، الذي قال: «إن الحل الوحيد هو أرض إسرائيل خالية من العرب. لا مجال هنا للتسوية». وصار لديهم الوقت لتحليل لغة وعد بلفور، رسالة بلفور عام 1917 التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، بما في ذلك دفاعها الواضح عن «الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين». وصاروا يقرؤون التحذيرات المتبصرة التي أطلقها مؤسس الجامعة العبرية يهوذا ماغنيس (Judah Magnes)، وألبرت أينشتاين (Albert Einstein)، وآخرين. وقرؤوا وتعمَّقوا فيما كشف عنه المؤرخون الجدد الإسرائيليون مثل بيني موريس وإيلان بابي، الذين كشفوا عن الجوانب غير المستساغة في تأسيس الدولة، وتملَّكوا القدرة على دعم الطوائف الحريدية المناهضة للصهيونية مثل الساتمار (Satmars) وناطوري كارتا (Neturei Karta)، وأن يشاهدوا مقابلات غير مفلترة مع بيتر بينارت (Peter Beinart)، ونوعم تشومسكي (Noam Chomsky)، ونورمان فينكلشتاين (Norman Finkelstein).

أدى توجه إسرائيل العنيد نحو اليمين خلال العقدين الماضيين إلى تشويه الصورة الصهيونية أكثر فأكثر. وفي حين أن المؤيدين مغرمون بالإشارة إلى أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فإنه من المعروف أن التفوق الذي طال أمده لحزب العمل اليساري قد انتهى باغتيال سياسي، وأن الجو اللاذع والنَّاقد الذي حصل فيه الاغتيال كان قد أُنشئ جزئيًا على يد الرجل الذي سيفوز في الانتخابات المقبلة. أصبح بنيامين نتنياهو الشخصية المهيمنة في السياسة الإسرائيلية، وكان لذلك عواقب وخيمة. وحتى في أثناء مكافحته لمزاعم الفساد ضده، دفع إلى اعتماد قانون القومية[9] لعام 2018، الذي أعلن أن «حق المواطنين في ممارسة تقرير المصير الوطني» هو «حق مقتصرٍ على الشعب اليهودي». وقام بحملة من أجل قانون «الإصلاح القضائي» المثير للجدل والذي شبهه العديد من المراقبين بالانقلاب السياسي. كما عهد نتنياهو مسؤولية دعم إسرائيل إلى دونالد ترامب إلى جانب قوميين آخرين مثل فيكتور أوربان (Viktor Orbán) في المجر وأندريه دودا (Andrzej Duda) في بولندا. وأدخل شخصيات مُستهجنة مثل إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريش إلى التيار السياسي الرئيس. وفي الوقت نفسه، أخذت مجموعة الضغط لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية مسارا مماثلا نحو اليمين، مما أدى إلى تنفير الليبراليين عنها عند دعمها لأكثر من 100 مرشح جمهوري على الرغم من دعواتهم لإلغاء انتخاب جو بايدن. ونظرًا للميول السياسية لليهود الأميركيين، الذين يصوتون للديمقراطيين بأغلبية تزيد عن اثنين إلى واحد، فربما كان التصدّع أمراً حتمي الوقوع.

من المؤكد أن الأمر بدا كذلك على الجسر العلوي على الطريق السريع في فيلادلفيا في ديسمبر/كانون الأول، حيث احتفل عدة مئات من المتظاهرين من جمعية الصوت اليهودي من أجل السلام بالليلة الثامنة من عيد الحانوكا من خلال عرقلة حركة المرور. وبعد أن تخلت المجموعة عن فكرة إقامة شمعدان يبلغ ارتفاعه تسع أقدام على الطريق، بسبب الوجود الكثيف للشرطة، اكتفت بلعبة خشبية صغيرة بدلًا من ذلك. وفقًا للتلمود، يجب إضاءة الشمعدان في وقت ومكان يمكن لأكبر عدد من الناس فيه «الاستفادة من الضوء»، كما أوضح أحد أعضاء حاخامات من أجل وقف إطلاق النار (Rabbis4Ceasefire) عبر مكبر الصوت، «ولذلك فإننا نقدم الامتنان لطائرات الهليكوبتر أعلاه التي تشارك بشكل مفيد في هذه الطقوس وفي نشر دعوتنا لتحقيق معجزة وقف إطلاق النار الآن». ارتفع الهتاف عندما قاد حاخامًا آخر الحشد في أغنية تعرّفتُ على كلماتها من أيام المدرسة العبرية «Lo yisa goy el goy cherev»، وهي من الإصحاح الثاني لسفر إشعياء (2:4)[10] «لا ترفع أمة على أمة سيفًا». وفي هذه الأثناء، أسفلنا على الطريق السريع I-76، كانت قد توقفت جميع الممرات الثلاثة لحركة المرور المتجهة غربًا في ساعة الذروة، بينما ركضت مجموعة أخرى من النشطاء إلى الطريق وأغلقت أذرعها.

مظاهرة مؤيّدة للفلسطينيّين في لندن (getty)

أضفى الغسق لونًا ورديًا على الجدران الحجرية لمتحف فيلادلفيا للفنون القريب، وتذكرت شيئًا قاله ستيف نامان. وبعد عقود من النسيان، بدا أن رسالة المجلس الأميركي لليهود قد تحققت أخيرًا. وأشار نامان بأن لعل دور المجلس كان شق المياه حتى يتمكن اليهود الآخرون من اللحاق بهم.

كنت قبل أكثر من 40 عامًا، مُتدربًا (تشانيش) في مُعسكَر موشافا [11]. وموشافا هي المنظمة العاملة عبر الأطلسي نيابة عن هابونيم[12] (هابونيم درور الآن)، وهي حركة شبابية يهودية تقدمية مكرسة لخلق، كما يذكر موقعها على الإنترنت، «رابط والتزام شخصي» تجاه إسرائيل. إذا كان أكبر ما تعلمته من هذه التجربة هو الولع بالسجائر الذي يزعجني حتى يومنا هذا، فهذا ليس خطأ المنظمة. ربما لم يكن الأطفال الأكبر سنًا الذين جعلوني أدمن «تدخين القرنفل» أكثر وعيًا مني بأن عبواتهم الملونة من الواردات الإندونيسية، ذات المذاق الحلو والخالية من الفلتر، كانت في معظمها من التبغ.

تأسست هابونيم، التي تعني «البناؤون»، في المملكة المتحدة في عام 1929 في محاولة لنشر عقيدة الصهيونية العمالية، وهي عبارة عن توليفة غير سهلة من سلالتين من الفكر اليهودي الأوروبي في القرن التاسع عشر: الاشتراكية والقومية اليهودية. الأولى، على الرغم من أنه نادرًا ما يُشار إليها بشكل مباشر، كانت محورية في تصميم المعسكر. زرع المعسكرون الحدائق واعتنوا بالدجاج. ونظفوا قاعات الطعام وقدّموا الوجبات وغسلوا الأطباق ونظفوا المراحيض. لقد اشتركت في خدمة جمع القمامة، وهو نوع من العمل الجماعي الذي سرعان ما أصبح نشاطًا مفضلًا، بغض النظر عن صعوبته.

وفي الوقت نفسه، سعى المعسكر إلى غرس الروح الصهيونية. بدأ الصباح بغناء النشيد الوطني الإسرائيلي «هاتيكفا». ساعات من الرقص الإسرائيلي تلت عشاء السبت. ثم بدأنا في نشاط آخر «عليا بيت»، وهو تقليد قديم في المعسكر عُقد في وقت متأخر من إحدى الليالي بعد أسابيع قليلة من الجلسة. أتذكر أنني استيقظت على تعليمات صُرخِت علينا باللغة العبرية، فخرجت من كيس نومي مترنحًا، وأُخرجتُ مسرعًا في الليل الرطب. قيل لنا «اصمتوا». كانت الغابة مظلمة. ولم يملك مصابيح كاشفة إلا المشرفين، الذي أدّوا بفظاظة دور القوات شبه العسكرية اليهودية. رُفعت في مرحلة ما فوق شجرة متشعبة، وطُلب مني القفز على العشب. كان ارتفاع الشجرة مترٌ تقريبًا، ولكني كنت منهكًا وفي الظلام، وترددت. همس أحدهم لي أن «اقفز! اقفز! اقفز!»، فامتثلت، ونهضت سالمًا ودائخًا. وصلنا في النهاية إلى رصيفٍ، وصعدنا إلى الزوارق، وأُرشدنا إلى البحيرة الصامتة قبل عودتنا إلى الشاطئ مرة أخرى. وبعد تناول أكواب الشوكولاتة الساخنة، استلقينا على الأسرَّة وقلوبنا تتسارع.

على الرغم من أن التمرين كان مبهجًا، إلا أنني لم أستوعب أهميته الأكبر. فقط عندما بدأت بالتفكير في هذه القصة، فكرت في ما كانت هذه التجربة قد صممت لتعلمني إياه. على الرغم من كل مبادئه ذات الميول اليسارية، كان موش ولا يزال جزءًا من نظام بيئي مترامي الأطراف وممول جيدًا من اللجان والاتحادات ومجموعات الضغط والمنظمات غير الربحية التعليمية وغيرها من الكيانات التي تعمل معًا لرعاية الثقافة اليهودية وتعزيز السياسة الصهيونية. «عَلَيا بِت» هو الاسم الرمزي الذي استخدمه مقاتلو الهاغاناه في جهودهم التي استمرت لسنوات لنقل اللاجئين اليهود الأوروبيين على الرغم من الحصار البحري البريطاني إلى فلسطين الانتدابية. ما تذكرته على أنه مجرد مغامرة ليلية ضبابية كان المقصود منها أن تكون درسًا في التاريخ الحي: محاكاة للمستوطنة اليهودية في أرض الميعاد.

وفي الوقت الذي يجد فيه العديد من اليهود الليبراليين أن ارتباطهم العاطفي بالدولة اليهودية يواجه تحديًا لم يسبق له مثيل، وحيث إن كلمة «الصهيونية» من شأنها أن تستحضر صور أحياء غزّة المدمرة والأجساد الشابة المكسورة، تمامًا كما تستحضر صور أبناء الكيبوتسات اليهودية الشجعان الذين يرتدون قبعات الصيد، فقد اتخذت تلك الليلة في الغابة أهمية مجازية مؤلمة بالنسبة لي. أفكر في الأطفال الأميركيين الذين يشعرون بالنعاس، وهم يعيدون بحماس واحدة من أكثر الأحداث رومانسية في التاريخ اليهودي، وهم مجندون غير مقصودين في صراع جيوسياسي على السلطة. أفكر في ما يسمى بالمسألة العربية، التي لم تُطرح بشكل واضح. وأفكر في انعكاس القمر الواضح على البحيرة، والمجاديف التي تضرب بدن القارب عندما تضرب صفحة الماء، وتحتها.

من المنطقي أنه من بين جميع فصول التاريخ الإسرائيلي، كان هذا هو الفصل الذي اختِير لإعادة تمثيله، وليس فقط لأن بعض الأعضاء الأميركيين في هابونيم خدموا بالفعل كطاقم على سفن النقل «عليا بيت». إنها قصة مغامرة مثيرة، حيث يخرج السكان المضطهدون والمرعوبون من الإبادة المقصودة، ويتفوقون بذكاء على خصومهم، ويشرعون في مهمة شاقة، ولكنها مقدرة لبناء أمة جديدة. إن كون الأشرار في هذه الحكاية هم البريطانيون، وهم قوة استعمارية لا لبس فيها، يقدم ميزة تصوير تأسيس إسرائيل باعتباره واحدًا من أعظم انتصارات القرن في مكافحة الاستعمار. وفي الوقت نفسه، كانت رحلة البحر الأبيض المتوسط ترمز إلى تجديد شبه غامض، عندما حول اليهود أنفسهم من ضحايا سلبيين، يستسلمون بخنوع لإبادتهم، إلى جنس جديد من المحاربين الأصحاء والرواد الذين يقفون أخيرًا غير منحنيين بين الشعوب الحرة في العالم. ومن الملائم أنها قصة خيالية إيديولوجية مهدئة لا يؤدي فيها العرب الفلسطينيون أي دور على الإطلاق، الذين طرد منهم حوالي 300 ألف حتى قبل مايو 1948، وسيتبعهم 450 ألفًا بعدها.

تدين قصة الخلاص المثيرة هذه، والتي أصبحت الأساس ليس فقط لمخيم صيفي فحسب، بل لسلسلة من أفلام هوليوود، بما في ذلك سيف في الصحراء Sword in the Desert (الذي صدر عام 1949، أي بعد فترة وجيزة جدًا على إعلان استقلال إسرائيل)، وأيضًا فيلم الدراما النفسية لكيرك دوغلاس لاعب الخفّة The Juggler (1953)، وفيلم الخروج Exodus الذي حقق نجاحًا كبيرًا في الستينيات من القرن العشرين، استنادًا إلى رواية ليون يوريس الأكثر مبيعًا، خطوطها العريضة جزئيًا إلى تقارير الصحفي الأميركي إيزيدور فينشتاين ستون (IF Stone). انضم الصحفي الأميركي اليهودي المتطرف في عام 1946 إلى مجموعة من «النازحين» اليهود من بولندا في أثناء عبورهم أوروبا التي مزقتها الحرب، واستقلوا سفينة بحرية كندية خرجت من الخدمة في إيطاليا، وشقوا طريقهم إلى فلسطين. نُشرت رسائل ستون في الأصل في صحيفة بِي إم (PM)، وجُمعت رسائله في كتاب نُشر عام 1946 بعنوان تحت الأرض إلى فلسطين (Underground to Palestine)، حيث يقول المؤلف بوضوح: «لم أذهب للانضمام إليهم [...] بصفتي صحفيًا يبحث فقط عن قصة جيدة، ولكن بصفتي من ذوي القربى وأديتُ التزامًا أخلاقيًا تجاه إخوتي». فضَّل ستون إنشاء دولة عربية يهودية ثنائية القومية، مشيرًا إلى أن اليهود والعرب يتعايشون بسلام في مدينة حيفا وأنه «لا توجد مشاعر عدائية في فلسطين بين اليهود والعرب كما هي موجودة في تشيكوسلوفاكيا بين التشيك والسلوفاك». وقد اتفق مارتن بوبر، وحنّا أرندت، والعديد من الآخرين على ذلك على هذا الحل، إلا أنه أصبح بعيد المنال، وهو الهدف الدبلوماسي السائد لعقود من الزمن، وسيظل كذلك بالنسبة لإدارة بايدن والعديد من اليهود الليبراليين، على الرغم من تراجع شعبيته بين الإسرائيليين.

نُسيت التحفظات بشأن تعريف إسرائيل بصفتها دولة يهودية إلى حد كبير، حيث حققت الدولة الوليدة سلسلة من الانتصارات. وبعد تعرضها للهجوم من جميع الجهات مع مغادرة آخر القوات البريطانية حيفا، تغلبت القوات المسلحة المشكلة حديثًا على خمسة من خصومها. وأسسّ اليهود نظامًا ديمقراطيًا، وجمعوا مجموعة سكانية متباينة ومتعددة اللغات ومصابة بالصدمات في مجتمع واحد بلغة مشتركة، حرثوا وزرعوا الأرض التي كانت بورًا[13]، والعديد من المناطق الزراعية أيضًا، وبنوا تدريجيًا واحدًا من أكثر الاقتصادات نجاحًا في العالم. (وفي الوقت نفسه، قدّموا للعالم الري بالتنقيط، وتطبيق ويز (Waze)، واللعبة اللوحية العقل المُدبّر (Mastermind)، ونظام إزالة الشعر Epilady، من بين ابتكارات أخرى).

بالنسبة للعديد من المتفرجين الخارجيين، وليس اليهود فقط، بدت مثل هذه التطورات إعجازية تمامًا. وبحلول الوقت الذي زار فيه الروائي اليهودي سول بيلو (Saul Bellow) إسرائيل عام 1975، والذي افتتح روايته مغامرات أوغي مارش (The Adventures of Augie March) بالتصريح الجريء الذي يدعو إلى الاندماج «أنا أميركي، مولود في شيكاغو»، كان مهووسًا تجاه الوطن الأم القديم، حيث «أثبت بقايا أوشفيتز أنهم قادرون على زراعة الأرض البور وتحويلها إلى دولة صناعية، وعلى بناء المدن وخلق مجتمع جديد، وعلى إجراء البحوث، والتفلسف، وتأليف الكتب، والحفاظ على تقاليد أخلاقية عظيمة، وأخيرًا، إنشاء جيش من المقاتلين الأشدّاء».

يمكن للمرء أن يُسلِّم، بالتأكيد، بأن القصة الإسرائيلية، أو بالأحرى في جزء منها، كانت بالفعل قصة انتصار هائل على محنة لا يمكن تصورها. اعترف إدوارد سعيد في كتابه الصادر عام 1979 القضية الفلسطينية (The Question of Palestine) «بالإرهاب المتشابك وشعور الانتصار الذي تغذت عليه الصهيونية»[14]، كما أقرَّ بأن لإسرائيل «إنجازات سياسية وثقافية تُحسب لها، بما يتجاوز انتصاراتها العسكرية المبهرة»[15].

حقيقة أن هذه النجاحات كانت مضفرة، مثل خبز الحلة، بالقهر والسلب والانتهاكات العنيفة لمواطني سعيد [16]، وهم شعبٌ له تطلعاته الخاصة، ومآسيه، وحقوقه الإنسانية، وسياساته غير الكاملة، وارتباطه الذي لا يمكن إنكاره بالأرض نفسها، كانت بالنسبة لبيلو وغيره الكثير أمر مؤسف، ولكنه هامشيّ في أحسن الأحوال. وفي حين يمكن أن يُعزى هذا الاستبعاد في الغالب إلى برنامج متعمد للدعاية السياسية والمشاعر الغربية المعادية للعرب، إلا أن الاستثناء اليهودي أدّى دورًا بلا شك. وبفضل «اختيارنا» المشهور، تعرض اليهود للتمجيد وأثقِلوا في الوقت نفسه بأشد حالة من متلازمة الشخصية الرئيسة (Main Character Syndrome) في تاريخ العالم. لقد صار دور الضحية رسميًا لنا. إن معاناتنا، وشتاتنا، وخلاصنا في نهاية المطاف، يُنظر إليها جميعها على أنها عناصر محددة مسبقًا لملحمة واسعة يعتقدها عدد لا يحصى من اليهود والمسيحيين والمسلمين في جميع أنحاء العالم باعتبارها قاعدة أساسية في عقيدتهم. ولعل هذا يساعد في تفسير السبب الذي دفع يهوديًا أميركيًا علمانيًا مثلي إلى كتابة هذه القصة عن الإرث المشكوك فيه للصهيونية، بدلًا من أن يكتبها واحدًا من الفلسطينيين الذين لا يحصى عددهم والذين عانوا من آثارها. يظل اليهود، في أسوأ الحالات وفي أحسنها، في مركز القصة، وعليهِ، فنحن المشغولون بمراجعتها وإعادة كتابتها[17].

بدأ ستون هذه المهمة منذ عام 1967. وحتى عندما كان اليهود في جميع أنحاء العالم سُعداء للغاية بإنجاز الألفية بعد استيلاء إسرائيل على القدس الشرقية والضفة الغربية، كان الصحفي المتمرد يلاحظ بشكل لاذع في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس (The New York Review of Books) أن «أولئك الذين يشعرون الآن بالحماسة النبوية سُرعان ما سيشعرون بأن النور الذي أملوا في رؤيته يخرج من صهيون أنه في النهاية ليس إلا قومية ضيقة أخرى» واعتبر أن معاملة اليهود للفلسطينيين «ستحدد أي نوع من الناس سنصبح: إما مُضطهِّدين وعنصريين مثل أولئك الذين عانينا منهم، أو عرقٌ أنبل وقادر على تجاوز كراهية الأجانب القبلية التي ابتليت بها البشرية»[18].

***

تبين لنا الآن أن جميع الصهاينة الأصليين كانوا مسيحيين. اغتنم البيوريتانيون والكالفينيون في وقت مبكر من القرن السابع عشر فكرة إعادة إسكان اليهود في فلسطين باعتبارها مقدمة ضرورية لعودة المسيح. كان من بين أبطال هذا المفهوم وزير مستعمرة خليج ماساتشوستس البارز جون كوتون (John Cotton) والسير إسحاق نيوتن (Sir Isaac Newton)[19]. ورغم أن «الصهيونية البدائية»، كما تُعرف الآن، لم تحقق تقدمًا عمليًا يُذكَر، فإن نفوذها في المملكة المتحدة ساعد في تمهيد الطريق أمام ترويج فلسطين للمشروع الصهيوني في نهاية المطاف، تمامًا كما يشكل الإنجيليون الأميركيون أعظم الداعمين لإسرائيل اليوم. وتحت تأثير هذا الإيمان بالآخرة، كتب الإنجليزي اللورد شافتسبري (Lord Shaftesbury) في عام 1853 رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني. وباستخدام جملة ستردد لعقود قادمة، وتثير غضب الشعب الفلسطيني بشكل مبرر، أصر على أن الأرض المقدسة «دولة بلا شعبٍ» في حاجة إلى «شعبٍ بلا دولة». وأشار شافتسبري، بناءً على فكرته، إلى وجود شعبٍ ينتظر إعادته إلى الأرض التي أمرها الله لهم: «سادة الأرض القدامى والشرعيون، اليهود!»

لكن هؤلاء «السادة الشرعيون» كانوا بحاجة إلى بعض الإقناع. واتخذ إحجامهم أشكالًا مختلفة. واعتبر معظمهم الفكرة خيالية إلى حد كبير. في الواقع، سوف يتطلب الأمر زوال ثلاث إمبراطوريات، وحربين عالميتين، وإبادة جماعية لجعل الخطة قابلة للتنفيذ إلى حدٍ ما. عارض الشيوعيون والاشتراكيون اليهود القومية بجميع أنواعها باعتبارها مؤامرة برجوازية لتقسيم الطبقة العاملة. واعترض الزعماء الروحيون الأرثوذكس على أن العناية الإلهية وحدها هي القادرة على تحقيق الفداء، وأن الصهيونية بالتالي خطيئة ضد الله من شأنها أن تؤدي إلى الخراب. ولم يكن من المفيد أن العديد من أنصار الصهيونية الأوائل كانوا ملحدين. وأخيرا، حتى في العصر الذي كان يُنظر فيه إلى الاستعمار، على الأقل في أوروبا، باعتباره خيرًا خالصًا، كان هناك من اعترض على فكرة إنشاء أمة يهودية على أرض يسكنها العرب. زار الكاتب اليهودي الروسي أهاد هعام (Ahad Ha’am) فلسطين عام 1891 وأمضى سنوات في كتابة تقارير تنتقد المشروع الاستيطاني. وشجب الاعتقاد السائد القائل بإن «اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي لغة القوة» (وهو مبررٌ مؤكد للعنف ويستخدمه كلا طرفي الصراع الحالي روتينيًا)، واتهم المستعمرين اليهود بمعاملة «العرب بعداء وعنف، وقسوة»، عازيًا هذا السلوك إلى الاستياء «تجاه أولئك الذين ذكّروهم بأنه ما يزال يوجد شعب آخر في أرض إسرائيل يعيش ولا ينوي المغادرة». ومع ذلك، فإن أهاد هعام، أب ما يسمى بالصهيونية الثقافية، التي روجت للنهضة اليهودية اللغوية والثقافية مع فلسطين في مركزها وقللت من أهمية وجود أمة يهودية حصرية، هاجر في نهاية المطاف إلى فلسطين بنفسه.

أعضاء من طائفة ناطوري كارتا، وهي طائفة حريدية صغيرة تعارض الصهيونية، في مسيرة في نيويورك في أواخر يناير/كانون الثاني. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، انضم يهود ناطوري كارتا وأعضاء من طائفة ساتمار، وهي طائفة أخرى مناهضة للصهيونية تاريخيًا، إلى العديد من المظاهرات الاحتجاجية.

وعلى النقيض من ذلك، كان الكاتب والسياسي والمقاتل زئيف جابوتنسكي، مؤسس ما يسمى بالصهيونية التصحيحية، يدعو إلى اتخاذ موقف متشدد تجاه العرب. وعلى عكس القادة الصهاينة الآخرين، الذين أبقوا هدفهم المتمثل في خلق أغلبية يهودية طي الكتمان إلى حد كبير (كتب تيودور هرتزل في مذكراته عن القيام بذلك «بتكتم وحذر»)، قال جابوتنسكي الجزء الهادئ بصوت عالٍ: الفلسطينيون شعب، وهم الأغلبية في الأرض التي ستصبح إسرائيل، ولن يستسلموا، ولمَ يستسلمون؟ إلا إذا أُجبروا على الاستسلام. كتب جابوتنسكي في مقالته الشهيرة الجدار الحديدي The Iron Wall: «يوجد أمر واحدٌ يريده الصهاينة، وهو الأمر الوحيد الذي لا يريده العرب»، وقال بصراحة إن إنشاء دولة يهودية سيتطلب تحويل العرب إلى أقلية، «ووضع الأقلية ليس بالأمر الجيد، واليهود يعرفون ذلك جيدًا»، وكانت وصفة جابوتنسكي بسيطة: مارس السلطة من دون اعتذار، وانتظر حتى يخرجوا. وأوضح أنه بطبيعة الحال، لن يلين الفلسطينيون إلا عندما «لا يعود لهم أي أمل في التخلص منا، لأنهم لن يتمكنوا من إحداث أي ثغرة في الجدار الحديدي». (ومن المثير للاهتمام أن الجدار الحديدي كان أيضًا اللقب الذي أُطلق على السياج الحدودي الذي تبلغ تكلفته مليار دولار والذي حاصرت به إسرائيل غزّة، وهو السياج الذي أسقطته جرافات حماس بدون تكلّف في 7 أكتوبر/تشرين الأول).

ورغم وحشيتها اليوم، إلا أن فلسفة جابوتنسكي كانت بمثابة استجابة معقولة لتجربته الصعبة مع اللاساميّة: فبينما اجتاحت المذابح روسيا، أنشأ ميليشيات مكرسة للدفاع عن اليهود عن أنفسهم. وتوقعًا لكارثة تلوح في الأفق بالنسبة ليهود أوروبا في وقت مبكر من عام 1936، ابتكر خطة إخلاء مفصلة. وعلى الرغم من أنه اصطدم مع مؤسسي إسرائيل ديفيد بن غوريون وحاييم وايزمان، إلا أن اقتناعه بأن الضامن الوحيد للبقاء هو القوّة، وهو الرأي الذي سرعان ما أكدته المحرقة، وأصبح مؤثرًا بشكل هائل، ومع مرور الوقت تطور التصحيحيون إلى حزب الليكود.

ويرى رشيد الخالدي أن جابوتنسكي هو «الشخص الصادق الوحيد» من بين الصهاينة الأوائل. وقال الخالدي إن خطأه هو أنه «افترض أنه كان في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، عندما كان من الممكن الإفلات بهذه الأمور، وهو العصر الذي كان يُنظر فيه إلى الاستعمار باعتباره أمرًا جيدًا». وأضاف أن الأميركيين الأصليين قاوموا بالتأكيد، كما فعلت مجموعات أخرى من السكان الأصليين، «لكنهم سُحقوا. لم ينجح هذا في القرن العشرين. لم ينجح في ليبيا. لم ينجح في الجزائر. لم ينجح في كينيا. ولم ينجح في جنوب إفريقيا».

وفي الوقت نفسه، ثمة مفارقة قوية يُتغاضى عنها غالبًا: وهي أن الهوية الوطنية الفلسطينية تدين بجزء كبير من حيويتها وقدرتها على الصمود لعقود من المعاناة الجماعية التي فرضتها عليهم الصهيونية[20]. وأشار الخالدي إلى أن الفلسطينيين «عانوا من صدمة لم تتعرض لها الشعوب العربية الأخرى. وإذا كان هناك من يستطيع أن يفهم ذلك، فهم اليهود[21]، الذين عانوا من نوبات متكررة من الاضطهاد والصدمات على مدى قرون، وهو ما يربطهم معًا بوضوح».

إحدى السمات المثيرة للاهتمام في سياسة جابوتنسكي الواقعية (Realpolitik) الشفَّافة هي أنها لاسياسية (Apolitical) في الأساس، بل في الواقع، نادرًا ما يستطيع المرء أن يقرأ مقالته اللاحقة أخلاقيات الجدار الحديدي (The Ethics of the Iron Wall)، دون أن يرى فيها تأييدًا للقضية الفلسطينيين، وليس الإسرائيلية، حيث كتب: «إن مبدأ تقرير المصير لا يعني أنه إذا استولى شخص ما على قطعة أرض فيجب أن تظل في حوزته إلى الأبد، ولا يعني أن من طرد قسرًا من أرضه يجب أن يظل دائمًا بلا مأوى»[22].

آثار الدمار في غزّة جراء القصف الإسرائيليّ المتواصل (getty)

في 11 أكتوبر/تشرين الأول، بينما كثف الجيش الإسرائيلي هجومه المضاد على قطاع غزّة، دارت شاحنة حول حرم جامعة هارفرد، وكانت جدرانها الخارجية مغطاة بشاشات رقمية تعرض صور ومعلومات طلاب ينتمون إلى جماعات عارضت الحرب، وأسمتهم رواد اللاسامية في جامعة هارفرد. إن «شاحنة التشهير»، التي رعتها منظمة الدقة في وسائل الإعلام (Accuracy in Media) اليمينية والتي ظهرت لاحقًا في جامعة ييل ومؤسسات أخرى، أشارت إلى مرحلة جديدة مثيرة للقلق في جهود جماعات المناصرة الصهيونية لخنق النقاش حول الصراع. بالنسبة لديريك بنسلار، وهو صهيوني عاش ودرّس في إسرائيل ويعاني مما يسميه مازحًا «اضطراب التعلق بإسرائيل»، فإن محاولات التخويف والقمع هذه، بما في ذلك الحظر طويل الأمد الذي فرضته منظمة هيليل الدولية (Hillel International) للحرم الجامعي على أي متحدثين يدعمون حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، أمر خطأ، وقال: «أعتقد أننا نؤذي أنفسنا بالفعل، من خلال عدم السماح بالتعبير عن مجموعة واسعة من وجهات النظر».

وهذا لا يعني أن مؤيدي إسرائيل لا يعملون، بل إنهم يركزون جهودهم على إقناع أولئك الذين اقتنعوا بالفعل، ويقدمون خطابًا مريحًا لمجموعة سكانية أكبر سنًا وأثرياء وداعمة والتي نادرًا ما تتحداهم. وقال بنسلار إن هذا لا يمثل «فشلًا فكريًا» فحسب، بل يمثل أيضًا «خطأ تكتيكيًا: إن استخدام لغة السبعينيات أو الثمانينيات لمحاولة تحفيز الشباب اليهودي في العشرينيات من القرن الحالي لن ينجح ببساطة». وأضاف أن مثل هذه المنظمات «غير منتخبة» و«غير مسؤولة أمام أحد»، و«لا يتحدثون باسم أحد سوى أنفسهم».

بعد أسابيع قليلة من حديثنا، أصبح بينسلار نفسه موضوعًا غير متوقع لحملة إلغاء. بعد تعيينه رئيسًا مشاركًا لفريق العمل المعني باللاساميّة في جامعة هارفارد (وهي المبادرة التي بدأت بعد الإطاحة سيئة السمعة برئيسة الجامعة السابقة، كلودين غاي)، تعرض بنسلار للتنديد من قبل عدد من المؤيدين البارزين لإسرائيل، بما في ذلك الاقتصادي لورانس سامرز (Lawrence Summers)، والممثلة الجمهورية إليز ستيفانيك (Elise Stefanik)، وممول التحوط الذي تحوّل إلى خبير انتحال بيل آكمان (Bill Ackman)[23]. وعلى الفور أصدر أكثر من 200 أستاذ في الدراسات اليهودية خطاب دعم مفتوح، ويبدو أن وظيفة بنسلار الجديدة آمنة في الوقت الحالي.

تواصلت في أثناء نقلي لهذه القصة مع مجموعة متنوعة من المنظمات الصهيونية الرئيسية، بما في ذلك لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC) ورابطة مكافحة التشهير (ADL)، لإجراء مقابلات. وعلى الرغم من امتلاكهم لأقسام اتصالات وعلاقات عامة ممولة جيدًا، إلا أن معظمهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الرد. وطلب اثنان التحدث بشكل غير رسمي.

هذا لا يعني أنه لا يوجد حتى الآن مؤيدين لإسرائيل مستعدين لطرح هذه القضية. في وقت متأخر من بعد ظهر أحد أيام شهر يناير/كانون الثاني، زرتُ روث ويس (Ruth Wisse)، الأستاذة الفخرية للأدب اليديشي في جامعة هارفرد، وكاتبة عمود في مجلة كومينتاري (Commentary)، ومؤلفة كتاب مذكرات حر كيهودي (Free as a Jew) المنشور عام 2021. استقبلتني ويس في شقتها الأنيقة في الجانب الشرقي الشمالي لمنهاتن. كانت ترتدي سترة وحمالة لذراعها، نتيجة لعملية جراحية أجريت لها مؤخرًا في النفق الرسغي. عرضت عليّ مشروبًا على الفور. شربت البوربون (قالت: «مثل أبنائي»)، وارتشفت ويس الفودكا.

كانت جنوب إفريقيا قد قدمت في وقت سابق من ذلك اليوم، قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، وتساءلتُ عما إذا كانت ويس قد شاهدت الجلسة. لم تكن مهتمة. وأوضحت أن الأمم المتحدة «أصبحت بالفعل المنتدى الرئيس لمعاداة السامية عندما أصدرت القرار رقم 3379 الذي وصف الصهيونية (الداعية لاستعادة السيادة اليهودية)، بأنها شكل من أشكال العنصرية»[24]. وأضافت: «ليس لمحكمتها أي شرعية. ويمنح ميثاق الأمم المتحدة جميع الدول حقوقًا متساوية، بغض النظر عن حجمها. فكيف تجرؤ الدول العربية على البقاء أعضاء في الأمم المتحدة إذا لم تقبل بشرعية دولة عضو أخرى؟» وقالت إن خطأ إسرائيل هو المثول أمام المحكمة أصلًا. وقالت: «يُوضع اليهود دائمًا في قفص الاتهام. يجب ألا تدخل إسرائيل أبدًا في مقعد المدعى عليه طواعية في محاكمة مزورة».

فرت ويس عندما كانت في الرابعة من عمرها، في عام 1940، من رومانيا مع عائلتها، وصعدت على متن آخر سفينة ركاب تعبر المحيط الأطلسي، كما أخبرتني. ليست اللاسامية بالمفهوم المجرد بالنسبة لها. استقرت عائلتها في مونتريال، لكن والدتها حذرتها بانتظام من عدم التخلي عن حذرها. وأخبرتها أن الحياة حرب. وقد ظلت ويس تحاربها دون هوادة منذ ذلك الحين. سألتني «هل تعرف مقدار ضبط النفس الذي تطلبه الأمر على مدى آلاف السنين لإنشاء شعب يهودي وإبقائه على قيد الحياة؟» قيل لنا «لا تتجاوزوا حدودكم، لأنكم ستؤدون إلى عقاب جماعي ضدنا. لكننا الآن لم نعد شعبًا في الشتات. لدينا دولة ندافع عنها، وطن قومي. علينا أن نغير تفكيرنا القديم الذي يعود لـ 2000 عام ماضية، وأن ندافع عن حقوق إسرائيل، أينما نعيش، وأن نتوقع أن ينضم إلينا جميع الأشخاص الطيبين».

وفي حين أن مقاومة الصهيونية ربما كانت تبدو معقولة في عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن «إنشاء الدولة يغير الصورة بأكملها، لأن معاداة الصهيونية الآن هو مفهوم إبادة جماعية. إذا كنت مناهضًا للصهيونية، فأنت ضد وجود إسرائيل، التي لم تعد حركة تحرر ذاتي، بل الوطن الحقيقي لتسعة ملايين شخص، من اليهود ومواطنيهم».

لم تتفاجأ ويس عند سماعها عن شباب يهود يتبنون أفكارًا معادية للصهيونية. وأشارت إلى أنه «من المغري دائمًا إلقاء اللوم على اليهود في الاعتداء عليهم [...] آه، لو أن إسرائيل لم "تحتل" الضفة الغربية، فلن يكونوا ضد اليهود [...] كثير من اليهود يؤمنون بذلك [...] وقال اليهود الألمان عبارتهم الشهيرة: ليتنا حلقنا لحانا، وليتنا تحدثنا باللغة الألمانية».

إن نبرة ويس المتحدية جديرة بالملاحظة، وأخبرتني عندما رددت بلطف على نقطة واحدة: «هناك حرب يا صديقي»، لكن وجهات نظرها ليست فريدة على الإطلاق. فاز المؤلف جوشوا كوهين (Joshua Cohen) بجائزة بوليتزر عن روايته عائلة نتنياهو (The Netanyahus) المنشورة عام 2021، والتني تتناول القضاء الوحشي على الشاب بيبي وعائلته. ويعتبر كوهين، الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية ويتحدث العبرية بطلاقة، رئيس الوزراء الحالي كارثة. قال لي: «كل شخص أعرفه في إسرائيل يرفض نتنياهو وسيخنقه في الشارع إذا استطاعوا [...]ومع ذلك فإنهم أيضًا صهاينة يعتقدون أن إسرائيل يجب أن توجد ويجب أن تزدهر. يوجد حل وسط شاسع بين الحكم على نتنياهو بحكم التاريخ والحكم على الدولة التي يحكمها بالتدمير».

ويعتقد كوهين أن رد فعل معظم الدول سيكون مماثلًا لما فعلته إسرائيل تجاه هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأن اليسار قد برر وحشية حماس تبريرًا غير عادلٍ، وقال: «إن أميركا تستخدم إسرائيل، ويمكنني أن أقول إنها تستخدم اليهود، لخوض حروبها بالوكالة حول العرق والامتيازات». وكان بيلو قد أبدى ملاحظة مماثلة: «ما تمثله سويسرا لقضاء عطلات الشتاء والساحل الدلماسي بالنسبة لسياح الصيف، تمثله إسرائيل والفلسطينيين في حاجة الغرب إلى العدالة، أي أنهما منتجع أخلاقي للغرب.

أما بالنسبة للمحتجين من الصوت اليهودي من أجل السلام والجماعات المماثلة، فقد كان كوهين رافضًا بشدة لهم. وتوقع أن «معظم مناهضي الصهيونية لن يصبحوا يهودًا خلال جيل واحد [...]الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود لا يتحدثون أيًا من اللغات اليهودية. ولا يعرفون النصوص اليهودية ولا يعيشون في إسرائيل. وإذا كان لديهم أطفال، ثمة احتمال بنسبة 50% تقريبًا أنهم لن ينجبوهم مع أزواج يهود أو يربوهم كيهود. لكي يعارض هؤلاء اليهود الصهيونية، ولكي يحتفظ هؤلاء اليهود لأنفسهم بإدانة إسرائيل كتعبير أخير عن يهوديتهم، يجب أن أحييهم، بل وربما أنحني لهم. هذه هي الوقاحة المطلقة».

يتعرض اليهود المناهضون للصهيونية بانتظام لهجمات شخصية مثل هذه. إنهم متهمون بالتملق إلى الغوييم [25]، وبالسذاجة وبحصولهم على معلومات مضروبة، وبأنهم اعتذاريون كارهون لأنفسهم أو أنهم يطمحون في أن يكونوا متطرفين أنيقين. وأشار جيل تروي (Gil Troy)، المؤرخ من جامعة ماكغيل، إلى أن أعضاء منظمة «إذا ليس الآن، فمتى؟» IfNotNow، التي تتضمن احتجاجاتها غالبًا رموزًا وطقوسًا يهودية، يتمتعون «بعبقرية ماوية تقريبًا في فهم ما قد يدفع آباءهم إلى الجنون». وردًا على إعلان المنظمة عن مسيرة لوقف إطلاق النار في البيت الأبيض، أعلن ديفيد فريدمان (David Friedman)، سفير ترامب إلى إسرائيل أنّ «أي يهودي أميركي يحضر هذا التجمع ليس يهوديًا، نعم، أنا أعني ما قلت!».

كانت وجهة نظر كوهين أكثر دقة. بصراحة، أشك في أن هذا صحيح بالنسبة للعديد من أعضاء «الصوت اليهودي من أجل السلام» و«إذا ليس الآن، فمتى؟»، والحاخامات من أجل وقف إطلاق النار، الذين التقيت بهم وهم ينقلون هذه القصة، حيث اعتبر الكثير منهم الاحتجاجات تعبيرًا عميقًا عن قيمهم اليهودية، ونظروا إلى رفاقهم في الاحتجاجات على أنهم المجتمع الذي طالما لم يجدوه في السياقات اليهودية التقليدية، ورأوا في معاداة الصهيونية شكلًا من أشكال التجديد الديني. اعتبر الكثيرون أن الدولة اليهودية ضائعة روحيًا، وبالتالي كانوا يوجهون تحذيرًا، وهو نوع من التحذير النبوئي الموجود في جميع ثنايا التوراة.

لا يعني ذلك أنني قرأت الكثير من التوراة. ولكي أكون صادقًا، فإن ما قاله كوهين عن اليهود الذين «لن يصبحوا يهودًا بعد جيل واحد» ربما ينطبق عليّ تمامًا. أنا لا أتكلم العبرية ولا اليديشية. زوجتي ليست يهودية. لقد قمنا بتربية أطفالنا على اليهودية، ولكن مع الكثير من التناقضات. أنا لستُ ملتزمًا في أي كنيسٍ أو معبد، وكثيرًا ما أعمل خلال العطلات الرسمية. في بعض الأحيان أرى في نفسي مثالًا على يهود الشتات، نعيش مرتاحين على الهامش، ونراقب أكثر مما ننشط. أنا أعتبر نفسي يهوديًا، وأشعر أنني يهودي، بكل المقاييس باستثناء المعيار الوراثي، وهو المقياس الذي يتبناه ألد أعدائنا، والذي قد لا أكون يهوديًا حقيقيًا عبره.

ومع ذلك، فأنا هنا أتجرأ على إصدار الأحكام على كوهين، الكاتب الذي أكن له إعجابًا كبيرًا، وعن دولة إسرائيل، وعلى العديد من أعضاء المجتمع اليهودي في جميع أنحاء العالم، وأقاربي بينهم، الذين ما زالوا ملتزمين بهذا التقليد القديم ومصممين على تنفيذه، والذين، عندما قُتل إخوتهم وأخواتهم، أصروا على القتال بشراسة، دون اعتذار، حتى مع ارتفاع التكلفة الأخلاقية بشكل لا يمكن تصوره وحتى عندما زأر العالم بالرفض ضدهم.

أتصور أن الكثير من الصهاينة هذه الأيام قد تأملوا الكلمات الشهيرة التي وردت في المشناه (أو المَثْنَاة): إذا لم أكن لنفسي فمن سيكون لي؟ إنه سطر رنان، الأول في ثالوث صغير أنيق من الأسئلة المنسوبة إلى هيليل الأكبر. استعارتها روث ويس لتكون عنوانًا لأحد كتبها. وتأخذ منظمة إذا ليس الآن، فمتى؟ اسمها من السؤال الثالث لهذا الحاخام القديم. والأمر الأقل تردادًا هو السؤال المتبقي لدى هيليل، وهو السؤال الثاني، والأعمق والأكثر وجودية بين الثلاثة. إنه السؤال الذي يتطرق إلى جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا، وهو أصعب جواب على الإطلاق: إذا كنت لنفسي فقط، فمن أنا؟

***

بدأ في ديسمبر/كانون الأول 2019 الانهيار في الشقين اللذين ميزا حركة شباب هابونيم درور منذ تأسيسها قبل نصف قرن من ذهابي إلى المعسكر، وهما العدالة الاجتماعية والقومية اليهودية. خلال اجتماع مجلس الإدارة الذي ينعقد كل سنتين، تقدم ثلاثة من أعضاء الحركة باقتراح لإعادة تقييم أحد ركائز الحركة. وكتبوا: «على الرغم من أن الصهيونية تعني تاريخيًا أمورًا كثيرة، الكثير منها أخلاقي وجميل، إلا أنها تعني أيضًا أمورًا أخرى كثيرة، الكثير منها ليس أخلاقيًا ولا جميلًا»، وفقًا لميكا إليز هاستينغز (Mica Elise Hastings)، إحدى المشاركات منذ فترة طويلة والتي كتبت عن المنظمة في أطروحتها الجامعية لعام 2021 «يرتبط تحرير جميع الشعوب ببعضه البعض، وبالتالي فإن تحرير فلسطين وتحرير اليهود ليسا على خلاف، بل هما شيء واحد!». تعثرت الحركة، ولكن وفقًا لأحد رواد المعسكر اللواتي تحدثت إليهم، والتي سأسميها ليا (17 عامًا)، وهي تحضر معسكر ويست كوست هابونيم، فمن المرجح أن تستمر مثل هذه الخلافات. بالنسبة لليا، فإن المعسكر هو «مكانها المفضل في العالم» منذ أن كانت في الثامنة من عمرها. لقد تحدثت ليا وزمرتها كثيرًا في الآونة الأخيرة، حيث قاموا بفرز سياساتهم وسط فوضى من المشاعر المتضاربة. قُتل العديد من أنصار هابونيم، بما في ذلك أوفير ليبشتاين (Ofir Libstein)، رئيس مجلس إدارة منظمة هابونيم درور الدولية، وناشطة السلام فيفيان سيلفر (Vivian Silver)، في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وعززت الهجمات التزام ليا وأصدقائها بالعدالة الاجتماعية، كما قالت لي. وقالت إنه بينما يختلف المشاركون حول التفاصيل، فإنهم «توصلوا إلى اتفاق أساسي على أن الحكومة الإسرائيلية ترتكب فظائع تجاه الشعب الذي يعيش في فلسطين [...] أشعر أيضًا بالكثير من التعاطف مع الأشخاص الذين يعيشون حاليًا في إسرائيل، وأشعر بالكثير من الخوف على ابن عمي الموجود في قطاع غزّة حاليًا في الجيش. أنا لا أتفق مع آرائه بشأن الوضع، لكنني أفهم أيضًا كيف تشكلت لديه». وتأمل ليا أن تعمل مشرفةً في المعسكر هذا الصيف. وقالت إنها تتطلع إلى نشاط «عَليا بت»، وضحكت: «لا يفهم الأطفال علامَ يدور هذا النشاط»، لكنها تخطط للتغيب عن نشاط آخر، وهو يوم إسرائيل السنوي.

وتابعت: «يُقدّم الكثير من اليهود اليساريين الذين أعرفهم كل هذه الاستثناءات لإسرائيل… لأننا نشعر بالخوف، ونعتقد أننا نعرف كل شيء [...] لكن الأمور باتت واضحة الآن، وحان الوقت لتفتح عينيك حقًا. ما تفعله إسرائيل بأهل قطاع غزّة هو إبادة جماعية. وأعتقد، كيهود مررنا بشيء مثل المحرقة، أننا من بين جميع الناس يجب أن نكون قادرين على الوقوف ضده».

آثار الدمار في غزّة جراء القصف الإسرائيليّ المتواصل (getty)

كانت الصهيونية في البداية (عفوًا عن هذا التعبير) منطقية جدًا. وأشار ماغِد من جامعة دارتموث إلى أن «أوروبا كانت تنهار [...] يمكنك أن تفهم أن اليهود حين قالوا إنهم لا يريدون أن يبقوا فيها وأن المنفى ليس جيدًا، وأنهم يريدون تولي مسؤولية أنفسهم عبر تبني الأفكار القومية الأوروبية الغربية والذهاب لإنشاء دولة قومية. أنا أعي ذلك تمامًا. لو كنت على قيد الحياة في العشرينيات من القرن الماضي في منطقة نطاق الاستيطان [26]، لربما بدت فكرة جيدة حقًا. لقد أنشأت دولة، وأنقذت الكثير من الأرواح، وهي الآن تضطهد الكثير من الناس».

وأشار الخالدي إلى أن «الدولة اليهودية، في حد ذاتها، لا تختلف في الواقع عن أي مشروع قومي آخر، ومن حيث المبدأ، فلا يوجد الكثير ما يُعترض عليه [...] المشكلة في الاستعمار الاستيطاني الذي ساهم في زرع هؤلاء الأوروبيين الشرقيين الفارّين من الاضطهاد إلى بلد لا يقبل سكانه أن يحلوا محلهم. تلك هي المشكلة».

هل خسرت الصهيونية قدرتها على الإقناع؟ نعم ولا. لقد فازت بالتأكيد عندما كان الأمر أكثر أهمية، عندما كان اليهود يُذبحون في أوروبا جماعيًا، وعندما رفضت دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، توفير الملاذ لهم. لقد انتصرت عندما تخلت المملكة المتحدة أخيرًا عن رؤيتها الإمبراطورية، ورسّمت الحدود، ومنحتهم الدولة. وقد انتصرت مرة أخرى، وبقوة، عندما أعطت الأمم المتحدة موافقتها على التقسيم.

وبعد ذلك، أخذت تخسر تدريجيًا. تمارس الدول القومية، وحركات المقاومة المسلحة، السلطة على نحو غالبًا ما يصدم الضمير. وبقدر ما يطلبون موافقتنا، أو ربما تواطؤنا، فإننا جميعًا نمنحها أو نحجبها وفقًا لما تمليه علينا أرواحنا. عندما نتحرك بهذه الطريقة، يمكننا أن ننزل إلى الشوارع احتجاجًا. ولكن هذا آخر ما يمكننا فعله. إذا انكمشت الدول على نفسها وماتت، وحلت برلماناتها، وطُويت أعلامها، لأنها ارتكبت أفعالًا غير أخلاقية أو غير لائقة أو قاتلة، فلن يكون من الممكن التعرف على خريطة العالم اليوم. إسرائيل لن تزول، مهما كان ما يأمله أعداؤها أو يخشاه مؤيدوها.

يقول كوهين «إن الطريقة التي يُتحدثُ فيها عن إسرائيل، وخاصة من قبل المتظاهرين، تذكرني بالنكتة السوفيتية القديمة: إنها تعمل من الناحية العملية، ولكن هل تنجح من الناحية النظرية؟ [...]إسرائيل تعمل عمليًا من أجل الإسرائيليين. ولا تحتاج إلى تبرير نفسها نظريًا. إسرائيل موجودة على الخريطة، وعلى أرض الواقع، ووسائل التواصل الاجتماعي لن تغير ذلك. ربما تكون إيران قادرة على ذلك، لكن وسائل التواصل الاجتماعي غير قادرة عليه».

يشير كوهين بشكل أو آخر إلى الحقائق على الأرض (Facts on the ground). قد يكون هذا بمثابة العقيدة الصهيونية، التي تناسب مكانًا كان في معظم تاريخه بناءً عقليًا أكثر من كونه واقعًا ماديًا. لقد نجت هذه الفكرة التي تحولت إلى دولة قومية، وازدهرت بطرق عديدة. وهي تتمتع الآن بالقوة اللازمة لتحويل غزّة إلى غبار، ولسفك الدماء بشكلٍ لا يمكن تصوره، ولإعادة بناء جدرانها الحديدية، الحقيقية والمجازية، لتحدي الرأي العام العالمي، والمواصلة في البقاء. كما أنها قوية بما فيه الكفاية، وأنا أسلم بكل تواضع، لرسم مسار مختلف وأفضل[27].

لقد تحدثت إلى العشرات من مناهضي الصهيونية خلال الأشهر القليلة الماضية، ولم يعتقد أي منهم أن إسرائيل يجب أن تختفي من الوجود. وبدا أن أغلبهم، الذين كانوا مقتنعين بأن التمييز العرقي والديمقراطية غير متوافقين بشكل أساسي، ويفضلون العودة إلى نموذج ثنائية القومية الذي دعا إليه ستون وآخرون. ولماذا لا يفعلون ذلك؟ يفتخر اليهود الأميركيون، عن حق، بالعيش في ظل ديمقراطية ناجحة متعددة الأعراق، على الرغم مما يشوبها من مشاكل أحيانًا. وباعتبارنا مواطنين في أمة حيث يشكل اليهود أقلية متميزة، فإننا ندين برفاهتنا وازدهارنا، بل وربما وجودنا، إلى التسامح والانفتاح والمساواة التي يتسم بها نظام حكومتنا وجيراننا. لا عجب أننا نرتعد من شوفينية إسرائيل، وقوميتها الإقصائية، وقمعها. ومن الواضح تمامًا كيف سيكون حالنا إذا اتبعت الولايات المتحدة خطى إسرائيل في الاحتفاظ بالسلطة للأغلبية العرقية أو الدينية. في ضوء ذلك، فإن ما يثير الدهشة ليس أن بعض اليهود الأميركيين مناهضون للصهيونية، بل إن الكثيرين ليسوا كذلك.

ويميل الإسرائيليون، بطبيعة الحال، إلى النظر إلى حل الدولة الواحدة باعتباره حكمًا بالإعدام، ويصرون على أن الأغلبية الديموغرافية اليهودية، التي يجب أن يُحافظ عليها إلى الأبد، وبتكلفة باهظة، هي وحدها القادرة على ضمان بقاء اليهود. إن الشرق الأوسط عبارة عن «منطقة خشنة»، كما يشيرون في كثير من الأحيان، ولعلهم يكونون على حق. وربما لن يتوصل الفلسطينيون واليهود، الذين عاشوا معًا بسلام لعدة قرون، إلى تسوية عادلة مرة أخرى. ربما يكون التعايش ضربًا من ضروب الخيال، وسوف تتكرر إراقة الدماء مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة بأسلحة أكثر فتكًا، حتى يصمد الجدار الحديدي أخيرًا. ولكن لا يجب أن ننسى أن حتى أعنف الأحلام قد تحققت قبلًا، بل إنها قد تنشأ أحيانًا من أكثر الظروف وحشية، وكما قال تيودور هرتزل في عبارته الشهيرة: «إذا تملكت الإرادة للفعل، فلن يعود تحقيقه حلمًا»[28].


إحالات

[1] تأسس المجلس الأميركي لليهودية عام 1942 ويرى، حسب موقعهم الإلكتروني (acjna.org)، الديانة اليهودية بوصفها ديانة عالمية، وليست هوية عرقية أو قومية. لا يشير المجلس إلى أي نوع من المعارضة لوجود دولة إسرائيل، بل يذكر أنها مهد العقيدة اليهودية، وأنهم يأملون إلى أن تكون إسرائيل آمنة ومزدهرة وتعيش في عدالة وسلام مع جيرانها. يتمحور تعارضهم مع إسرائيل حول أن علاقة اليهود الأميركان معها هي علاقة تاريخية وروحية، وليست سياسية، ويرفضون أن تملك إسرائيل حق التحدث باسم الشعب اليهودي في أنحاء العالم كافّة (المُترجم).

[2] يشير المؤلف إلى اليهودية الإصلاحية والتي عارضت الحركة الصهيونية وطالبت باندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية والأميركية وعارضت الحلولية اليهودية التقليدية، بل ورفضت وعد بلفور (المُترجم).

[3] حسب آخر إحصائية لـ أ ف ب (AFP)، بالاعتماد على الأرقام الإسرائيلية الرسمية، فقد نزل الرقم إلى حوالي 1163 قتيلًا (المُترجم).

[4] يشير آخر تقدير إسرائيلي رسمي لبقاء 130 رهينة على قيد الحياة، حيث قتلت إسرائيل البقية في حملة قصفها المنهجية وفي غزوها التدميري لقطاع غزّة (المُترجم).

[5] حسب إحصائية وزارة الصحة والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بتاريخ 4 أبريل/نيسان 2024 (المُترجم).

[6] زعيم الأغلبية الديمقراطية بمجلس الشيوخ الأميركي.

[7] محطة قطارات رُكّاب في وسط مانهاتن بمدينة نيويورك، ومن محطات المترو الرئيسة التي تربيط بين الخطوط 4 و5 و6 و7 – (المُترجم).

[8] المعروفة في الغالب باسمها المختصر باللغة الإنجليزية ADL، تأسست عام 1913 تحت اسم رابطة الحلفاء لمكافحة التشهير أو بالإنجليزية Anti-Defamation League of B'nai B'rith، انفصلت لاحقًا عن منظمة الحلفاء (B'nai B'rith). كان الهدف الأساسي للربطة محاربة اللاسامية في الولايات المتحدة، وبعد تأسيس إسرائيل صارت من أهم الداعمين لها ومن أهم جماعات الضغط والمناصرة المؤيدة لإسرائيل والمحاربة لحقوق الفلسطينيين، وصارت من أبرز المروجين لمقولة إن معاداة الصهيونية هي نفسها اللاساميّة. تُسهل الرابطة زيارة الوفود الأميركية إلى إسرائيل بهدف توطيد العلاقات بين البلدين (المُترجم).

[9] أو ما يُعرف أيضًا بـ «القانون الأساسي: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي»، وهو القانون الأساسي رقم 13 لدولة الاستعمار الاستيطاني، إسرائيل (المُترجم).

[10] «فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد».

[11] اختيار الاسم مرتبط بإيام الاستعمار اليهودي الأولى في فلسطين ويشير إلى شكل من أشكال الاستيطان الزراعي بدأت في سبعينيات القرن التاسع عشر وخلال الموجتين الأولى من الهجرة الصهيونية (عَليا ألف وعَليا بِت). وعلى خلاف الكيبوتسات والموشاف اللاحقة، تكون ملكية الأراضي في الموشافا خاصّة. من الأمثلة عليها: بتاح تكفا ، وريشون لتسيون ، ورحوفوت (المُترجم).

[12] هابونيم تعني حرفيًا البُناة أو البنَّاؤون، وهو موشاف جماعي أو موشاف شيتوفي ويأتي من حيث التصنيف ومدى تعاونيته بين الموشافا والكيبوتس (المُترجم).

[13] نُلاحظ أن المؤلف قدّم الأرض البور على الأراضي الزراعية في فلسطين، وهو ما يشير إلى أنه ما يزال متعلقًا بدولة الاستعمار الاستيطاني، حيث إن هذه الإشارة تؤكد الرواية والسردية الصهيونية بأن فلسطين كانت صحراء قبل الصهيونية، وهم من جعلوها ذات حدائق غنّاء، وهو أمر كاذب، حيث تؤكد الصور والروايات والدراسات والأفلام المصورة والشهادات الحيّة والوثائق خلاف ذلك (المُترجم).

[14] اقتباس مجتزأ، حيث يقول سعيد في الكتاب «أعرف تمامًا، مثلي مثل أي غربيٍ متعلمٍ وغير يهودي، ما عنته اللاسامية لليهود، خصوصًا في هذا القرن [القرن العشرين]. وبالتالي، يمكنني أن أتفهم الإرهاب المتشابك ونشوة الانتصار التي تغذت عليهما الصهيونية، ويمكنني على الأقل أن أتفهم ما تعنيه إسرائيل بالنسبة لليهود، بل وحتّى للغرب الليبرالي المستنير، إلا إني بصفتي عربي فلسطيني، يمكنني أن أرى وأشعر بأمورٍ أخرى، وهذا هو ما يعقد الأمور تمامًا، وهو بعينه ما يدفعني للتفكير والتركيز في الجوانب الأخرى للصهيونية» من كتاب القضية الفلسطينية (1980، طبعة Random House)، صفحة 60 (المُترجم).

[15] مرة أخرى، الاقتباس مجتزأ، حيث يقول سعيد في كتابه: «أحتاج إلى التوقف هنا والاعتراف بالتحدي المعقد المتمثل في مناقشة تأثير الصهيونية على الفلسطينيين العرب، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انتصارات الصهيونية العديدة. لا شكّ لديّ، مثلًا، أن معظم اليهود يعتبرون الصهيونية وإسرائيل حقيقتين في غاية الأهمية للحياة اليهودية، وخاصة بسبب ما حدث لليهود في هذا القرن [القرن العشرين]. كما أن إسرائيل حققت بعض الإنجازات السياسية والثقافية التي تُحسب لها، إلى جانب نجاحاتها العسكرية المبهرة. ومن الجدير بالملاحظة أن إسرائيل تمثل موضوعًا يمكن للمرء، على العموم، أن يشعر بالإيجابية تجاهه بالقدر الأدنى من التحفظات، على العكس من العرب، الذين كثيرًا ما يُنظر إليهم في الغرب على أنهم غريبون وأجانب وعدائيون، ومن المؤكد أن هذا يبدو بديهيًا لأولئك الذين يعيشون في السياقات الغربية. لقد شكلت هذه الإنجازات الصهيونية منظورًا مهيمنًا للقضية الفلسطينية، متعاطفًا بشكل كبير مع المنتصر ويتجاهل إلى حد كبير معاناة الضحية»، وقد كتب سعيد، بناءً على آخر الكلمات في هذا الاقتباس مقالًا آخر في الكتاب نفسه ونشر لاحقًا في كتابٍ منفصل بعنوان الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها (Zionism from the Standpoint of its Victims) (المُترجم).

[16] المواطنين الفلسطينيين.

[17] عُقدة المُخلّص الأبيض (White Savior Complex)، وهو يتجاهل آلاف الكتابات العربية والفلسطينية وغيرها التي أتت من الجنوب العالمي حول الحركة الصهيونية ودولة الاستعمار الاستيطاني على مدار قرنٍ كامل (المُترجم).

[18] مرّة أخرى، جزء من دعم بعض اليهود الأميركيين أو بعض المناصرين الغربيين للقضية الفلسطينية ليس منبعه تفهم أو نصرة لمظلوم ضد ظالم، بل في نوع الظلم المُمارس وباسم مَن يُمارس، وهو فخ يقع في شراكه العديد من مناصري القضية الفلسطينية، ولكنهم في الوقت نفسه يدعمون ويناصرون طغاة ومستبدين آخرين في العالم العربي وحول العالم أجمع. وكما نرى في الاقتباس أعلاه، فستنون يريد أن يكون عرقًا أنبل. مشكلته ليست في الاستعمار الاستيطاني، ولا النكبة، ولا في كل المصائب الأخرى، ولكن في الطريقة التي يتعامل فيها الإسرائيليون مع الفلسطينيين، وكأن تاريخ قيام دولة إسرائيل كما نعرفها قد كُتب بحبرٍ لا يمكن إزالته على الإطلاق، ولكن يمكن تصحيح بعضًا من أخطائه هنا وهناك (المُترجم).

[19] عالم الرياضيات الشهير بعينه (المُترجم).

[20] بدأت تتشكل الهوية الوطنية الفلسطينية، حسب تقديرات أبحاث جديدة، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي قبل الانتداب البريطاني لفلسطين، وقبل قيام دولة إسرائيل، وكان هذا نابعاً في جزء منه لازدهار الحركة الثقافية والعلمية في فلسطين ونشاط حركة الطباعة والفكر والتقارب الجيوغرافي مع سوريا ولبنان ومصر التي كانت تشهد حركات مشابهة. يحاول الكاتب أن ينفي فلسطينية الفلسطينيين قبل النكبة، بل ويشير بكل جلافة إلى أن الفلسطينيين مدينيين بجزءٍ كبير لتشكلهم الهوياتي إلى عنف الصهيونية نفسه (المُترجم).

[21] قد يبدو التعبير بريئًا، بيد أنه يكرّس دور الضحية الخالد ليهود العالم، وفي الوقت نفسه يروج لفكرة مفادها أنه لا يوجد أي شعب في العالم مرّ بما مرّ به اليهود، وهو أمر خاطئ تمامًا، فمعاناة السود في أميركا، ومعاناة السكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا والأبورجيين في أستراليا، وغيرها، كلها تقف مناطحة السحاب أمام مآسي الشعوب الأخرى، ولا ننسى كل الشعوب الأخرى التي تعرضت للاستعمار، مثل الجزائر وليبيا وباقي الدول العرب والدول الإفريقية والهند وسريلانكا والفلبين وغيرها الكثير. ولكن من المفهوم أن يستخدم رشيد الخالدي هذه الفكرة كونه يتحدث إلى جمهورٍ غربي بالكامل، وهو جمهور لا يعرف شيئًا أو لا يريد أن يعرف شيئًا عن المصائب والفظائع التي مارستها وكرّستها القوى الغربية على امتداد قرون (المُترجم).

[22] ليس في الأمر أي تأييد للقضية الفلسطينية، بل هو يُكرّس الازدواجية الغربية في المعايير، فهو لا ينظر إلى الفلسطينيين والعرب على أنهم بشر على قدم المساواة مع الإنسان الغربي الأبيض اليهود-مسيحي (Judeo-Christian)، وعليه فما يقوله في سياقه الزماني ينطبق على اليهود فقط (المُترجم).

[23] اتهمت زوجة بيل آكمان في شهر يناير/كانون الثاني 2024 بالانتحال والسرقة الأدبية، وهو ما دفعه للتهديد برفع دعوى قضائية ضد موقع Business Insider الذي نشر الخبر، كما هدد باستخدام الذكاء الاصطناعي لتدقيق ومراجعة عمل وكتابات زملاء زوجته من الأساتذة في حملة انتقامية واضحة. يُعدّ آكمان من كبار المناصرين للصهيونية ولدولة إسرائيل في الولايات المتحدة، وكان من أهم الدّاعين لطرد أول رئيسة سوداء لجامعة هارفرد. كما طالب آكمان إلى عدم توظيف الطلاب من جامعات النخبة، وخصوصًا هارفرد، الذي وقعوا الرسالة الجماعية الداعية لمحاسبة إسرائيل على جرائهما والتي نُشرت في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2024 (المُترجم).

[24] صنّفت الأمم المتحدة الحركة الصهيونية بموجب القرار 3379 في عام نوفمبر/تشرين الثاني 1975 على أنها «شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، وطالبت الدول الأعضاء بمقاومتها لأنها تشكل خطرًا على الأمن والسلم العالميين. جاء إلغاء القرار عام 1991، عندما وضعت إسرائيل الإلغاء شرطًا لدخولها في محادثات مدريد، وألغي بموجب قرار 86/46 (المُترجم).

[25] غوييم أو الأغيار، وهو مصطلح يهودي ديني يستخدم للإشارة إلى غير اليهود. وقد أشار المؤسسون الأوائل للصهيونية والداعمين لها، مثل بلفور، إلى الفلسطينيين على أنهم «غير يهود»، ونرى تكريس ذلك عند الإشارة إلى عرب الداخل (48) على أنهم غير يهود على الدَّوام (المُترجم).

[26] نطاق الاستيطان، هي منطقة في غرب الإمبراطورية الروسية تأسست عام 1791 وسمح فيها لليهود بالإقامة الدائمة فيها، ومنعوا عنها خارجها إلا لثلة صغيرة من النبلاء والأثرياء وغيرهم ممن اليهود البارزين. يترجم المصطلح إلى الإنجليزية Pale of Settlement، ويعود أصل كلمة Pale إلى الكلمة اللاتينية «palus» وتعني «ركيزة»، ويعني المصطلح منطقة مميزة عن المحيط بها بحدود واضحة أو نظام إداري وقانوني مختلف، وهو المفهوم الذي أدى إلى التعبير «خارج الحدود» أو «Beyond the Pale». في سياق روسيا الإمبراطورية، أُنشئ ما يسمى بالحي اليهودي (Cherta Osedlosti) نتيجة لضم عدد كبير من اليهود إلى النفوذ الروسي بعد ثلاث تقسيمات لبولندا (1772، 1793، 1795). تصدت السلطات الروسية لتحدي دمج مجتمع كان محظورًا على روسيا بأكملها من خلال السماح لليهود بالبقاء في مناطقهم الحالية وبترخيص هجرتهم إلى المناطق المجاورة للبحر الأسود التي ضُمّت من تركيا العثمانية وقتها، حيث يمكنهم العمل كمستوطنين. من خلال ثلاثة مراسيم، صدرت في عامي 1783 و1791 و1794، قيّدت كاثرين العظمى الأنشطة التجارية لليهود في هذه المناطق الملحقة حديثًا. مع مرور الوقت، تشكلت هذه المناطق كحي محدد بوضوح، حيث أدت القيود القانونية إلى منع استيطان اليهود تدريجيًا في أجزاء أخرى من روسيا. تفكك النطاق رسميًا مع بداية الحرب العالمية الأولى في 1914 وبسبب سقوط الإمبراطورية الروسية لاحقًا في ثورتي فبراير وأكتوبر 1917 (المُترجم).

[27] خطاب آمل في الصهيونية وفي تغييرها، وهو متوائم مع خطاب المخلص الأبيض الذي يعتقد دائمًا أن بإمكان المؤسسة الغربية أن تكون أنبل وأفضل من خصومها وأنها أولى من يجنح إلى السلم (المُترجم).

[28] يشير الكاتب هنا إلى إمكانية تحول/إصلاح الصهيونية وتغيرها في موقفها من الفلسطينيين، كما أنه يشير إلى دولة إسرائيل كانت يومًا حلمًا في مخيال يهود أوروبا المضطهدين، ولكن يمكن استخدامها أيضًا لصالح الفلسطينيين، خصوصًا لامتلكهم إرادة لا تلين منذ أكثر من 100 عام في مواجهة دولة الاستعمار الاستيطاني (المُترجم).

التعليقات