باتت محنة الإجرام الّتي تعصف بالمجتمع الفلسطينيّ "داخل الخطّ الأخضر" تبدو ثانويّة مقارنة مع الإجرام الإباديّ الّذي تنفّذه إسرائيل بحقّ شعبنا في غزّة، والفظاعات الّتي يرتكبها الجيش والمستوطنون في الضفّة الغربيّة. لقد غطّت أخبار الإبادة على حديث الناس اليوميّ، وهذا أمر مفهوم. فحدث بهذه الضخامة كالّذي يعيشه شعبنا منذ تسعة أشهر، يحطّم القلوب، ويشتّت الجهد والتركيز، ويلقي على الحاضر والمستقبل غمامة سوداء، وما يترتّب على ذلك من قلق وجودي لدى شرائح معيّنة من الناس. وتتعمّق هذه المشاعر عند التذكّر أنّنا كجزء من هذا الشعب، عاجزون عن الارتقاء إلى مستوى جسامة الكارثة الّتي يمعن فيها نظام الاستعمار الإباديّ بحقّ شعبنا في غزّة.
ولكن للأسف، فإنّ ماكينة الجريمة لا تزال نشطة، والمجرمون يتوحّشون أكثر بالوسائل وطريقة التنفيذ، كما أنّ دائرة المستهدفين تتوسّع لتصل إلى أقرباء المتورّطين في الجريمة. إنّنا ما زلنا نستيقظ على وقع جريمة أو أكثر كلّ صباح، وكلّ مساء، في بلداتنا العربيّة، في الجليل والمثلّث والنقب والساحل. ولم يعد بالإمكان إغفال هذا الواقع المرير، الّذي ينهش نسيج مجتمعنا، وأمنه، ويطال شبابه ونساءه وكباره. حتّى كتابة هذه السطور، الاثنين ٢٤ حزيران، ٢٠٢٤، وصل عدد ضحايا الإجرام الداخليّ إلى ١٠١، منذ بداية هذا العام فقط، ناهيك عن أعداد الجرحى والمعاقين الّذين لا يجري التركيز الإعلاميّ عادة عليهم، وعلى الآثار النفسيّة والاجتماعيّة والمادّيّة المترتّبة على ذلك.
إذًا، همشت حرب الإبادة ضدّ غزّة الاهتمام بظاهرة العنف والإجرام في المجتمع الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر، إذ يظهر هذا المجتمع وكأنّه آل إلى حالة استسلام أمام هذا التهديد الخطير، أو بات في حالة تعايش، دون قصد، مع هذا المخطّط الإجراميّ الّذي يغذّيه نظام الأبرتهايد، رغم أنّ وتيرة القتل والإجرام في تصاعد وكأنّه بات معطى ثابت ومستعصيًا على الحلّ. والآن، ومنذ تسعة أشهر، نحن ما زلنا في حالة صدمة جرّاء الحرب على غزّة وتحت تأثير الإجراءات القمعيّة غير المسبوقة، وبالتّالي أدخلنا إلى حالة من اللافعل أو القصور شبه الكامل، الأمر الّذي زاد الطين بلّة، وعمق الأزمة الداخليّة الّتي يمرّ بها المجتمع الفلسطينيّ وقيادته منذ العقد الأخير.
ليست الحرب الاباديّة الحاليّة وما رافقها من إجراءات قمعيّة ضدّ أيّ شكل من أشكال التضامن مع محنة غزّة، السبب الوحيد وراء هذه السلبيّة الجماعيّة، تجاه ظاهرة العنف. فهذا المخطّط الإجراميّ لم يولد ردًّا جماهيريًّا عارمًا، أو حراكًا شعبيًّا مستدامًا، كما يستحقّ، حتّى قبل بدء انفلات الهمجيّة الصهيونيّة ضدّ غزّة. نعم كانت قبل ذلك، وعلى مدار سنوات طويلة، مبادرات ومحاولات حثيثة، وممارسة الضغط على حكومة الأبرتهايد وشرطتها العدوانيّة من خلال التواصل وتشكيل اللجان الرسميّة، أو على المستوى الشعبيّ، وفي محاولة لدفعها إلى التوقّف عن حمايتها وتغذيتها لعصابات الإجرام.
وكانت هناك دراسات مكثّفة عميقة، تسبر جذور العنف الحقيقيّة، الكامنة في النهج الاستعماريّ والعنصريّ، وتفنّد ادعاءات النظام الصهيونيّة بأنّ العنف جذوره في الثقافة العربيّة، وأثبتت المسؤوليّة المباشرة وغير المباشرة لنظام الأبرتهايد، لكنّنا، كمؤسّسات وأفراد، أخفقنا، أو عجزنا عن توليد حالة ديناميّة، متدحرجة، ترفع من مستوى سلوكنا الجماعيّ في مواجهة الخطر الداهم. قد يكون غياب التحرّك الشعبيّ العارم مفهومًا في ضوء توحّش النظام الصهيونيّ، ولكن ليس مبرّرًا إخفاقنا في إعادة تنظيم مؤسّساتنا وحركاتنا السياسيّة، ومرجعيّاتنا التمثيليّة، وخلق أطر اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة من الأجيال الجديدة، قويّة وصلبة، وذات خطاب اجتماعيّ تقدّميّ، ووطنيّ تحرّريّ واضح، ومتماسك. لقد تمّ اختزال طموح القيادات في الحفاظ على هذه المؤسّسات كما هي، على وهنها، وهشاشتها.
وتجلّى أيضًا القصور في مجال تعميم تأطير هذا العنف باعتباره ليس نتاج مسألة تمييز عاديّة، بل نتاج ممارسة استعماريّة، أيّ مسألة بنيويّة تتّصل بنظام الأبارتهايد الاستعماريّ والفصل العنصريّ، الّذي من أهدافه تحطيم النسيج المجتمعيّ للسكّان الأصليّين، وإنهاك القوى الحيّة فيه، في إطار مخطّط الهيمنة والاستغلال والإقصاء المعنويّ، أو الاستئصال الفعليّ. وهذه العلاقة المباشرة، بين النظام السياسيّ الاستعماريّ والجريمة، الّتي يدركها علماء الاجتماع والباحثون في ظاهرة العنف داخل المجتمعات المضطهدة، كشفتها القناة الإسرائيليّة الثانية، في ٣٠ حزيران عام ٢٠٢١، نقلًا عن وزير الأمن الداخليّ الإسرائيليّ الأسبق، من حزب العمل، عومر بارليف، قوله "إنّ المجرمين العرب الّذين ينفّذون الجرائم هم في غالبيّتهم عملاء للشبّاك- جهاز الأمن العامّ، ولذلك لا يمكن ملاحقتهم؛ لأنّ لهم حصانة من قبل هذا الجهاز".
ما السبيل؟
ليس مجتمعنا الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر عاقرًا. لقد أثبت أنّه حيّ وديناميّ خاصّة منذ يوم الأرض عام ١٩٧٦. وأنتج تجربته السياسيّة الخاصّة، بما لها وما عليها، بالتوازي مع التجربة الفلسطينيّة التحرّريّة في الضفّة وغزّة وأماكن الشتات. وحتّى عندما أعلنت القيادة الفلسطينيّة الرسميّة، الاستسلام، ووقعت اتّفاق أوسلو، الّذي أضفى الشرعيّة على الصهيونيّة وما تمثّله من ظلم، وأخرجنا من الصراع ومن الحلّ، رفض هذا الجزء اقتفاء أثر هذه القيادة، فابتكر معادلة ديمقراطيّة وطنيّة، ذكيّة، تتمسّك بمناهضة الصهيونيّة بصفتها أيدلوجيّة عنصريّة وإقصائيّة، وما تطلب ذلك من تجديد ومواصلة النضال من أجل العدالة والمساواة، من خلال تحدّي يهوديّة الدولة من داخل الكيان.
لكن، ومع تعمّق أزمة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وغياب المشروع السياسيّ الواضح، ومع تعاظم عنصريّة وتوحّش نظام الأبرتهايد الكولونياليّ، وإعادة إنتاج سياساته القمعيّة والاحتوائيّة (الاحتواء الاقتصاديّ) بكثافة أكبر، زحفت الأزمة أيضًا إلى داخل الجسم السياسيّ العربيّ داخل الخطّ الأخضر، وانعكست من بين أمور أخرى، في نقص المخيال السياسيّ عند هذه القيادات، وإصرارها على البقاء في مواقعها.
وردًّا على هذا الواقع المتردّي، وعلى هذه الأزمة، اجتهدت قطاعات من النخب الأكاديميّة والمثقّفة، وبعض السياسيّين، ووضعوا دراسات وتصوّرات مهمّة، ليس فقط عن جذور العنف والإجرام، بل أيضًا عن كيفيّة مواجهته. وقد ربطت هذه الدراسات ظاهرة الإجرام بالعنف الاستعماريّ، البنيويّ، المتمثّل أساسًا بسرقة الأرض، وإفقار الناس، واحتجاز تطوّرهم، وقمع هويّتهم، ومحو تاريخهم وحضورهم المعنويّ والرمزيّ. ولذلك تمّ ربط هذا التشخيص بمطالبة المؤسّسة الرسميّة الصهيونيّة، بتحرير الأرض، وتوفير الميزانيّات، وإيقاف القمع، ورفع الحماية عن المجرمين. كما تمّ تأسيسه على أفكار وخطط عمل تهدف إلى تفعيل طاقات وكفاءات واختصاصات المجتمع الفلسطينيّ.
ولكنّ التنفيذ ظلّ معطوبًا وقاصرًا. وظلّ الفعل السياسيّ الشعبيّ، قوّة التأثير الحقيقيّة، معطّلًا، إذ ظلّت طرق تفعيل الناس وحشد عشرات الاولوف تقليديّة، وعديمة الجدوى. ويبقى السؤال الكبير المطروح الّذي يحتاج إلى إجابة، نظريّة، وعمليّة؛ لماذا لم يتمكّن الفلسطينيّون من تفعيل ثقلهم الشعبيّ في معركة التصدّي لظاهرة العنف، ويتبعه السؤال عن غياب الفعل الشعبيّ من أجل غزّة. وقد يساعد التذكير بحركات شعبيّة عارمة ومؤثّرة سابقة، في الإجابة عن هذا السؤال. من هذه الحراكات؛ حراكات مقاومة مخطّط برافر، الّتي تمّ التحضير لها بمنهجيّة وتعاون شامل، بين المؤسّسات التمثيليّة والحزبيّة، مع الحراكات الشبابيّة، والّتي كانت ذروتها على مدار عام ٢٠١٣. وأيضًا مشاركة فلسطينيّي ال ٤٨ بهبة الوحدة والكرامة أيّار عام ٢٠٢١، الّتي استمرّت حوالي ثلاثة أسابيع، من توقّف خلالها العنف الداخليّ تقريبًا، ولم يحدث خلالها سوى حالتي قتل. ولو كانت القيادات حاضرة، من حيث المشاركة والتوجيه والترشيد، في تلك الهبة الوحدويّة، لكان الضرر الّذي لحق بالعديد من الشباب أقلّ بكثير.
ماذا يعني ذلك؟
يعني ضرورة تعزيز وتأطير الوعي بين الناس والشباب خاصّة، بأهمّيّة العمل الشعبيّ، وتأطير المشاكل الاجتماعيّة، كالبطالة والفقر، والعنف، والتسرّب من المدارس، ونقص أراض للسكن، باعتبارها جزءًا بنيويًّا من منظومة القمع والاستعمار، وأنّ العمل على المستوى الرسميّ فقط، دون دمجه بالعمل الشعبيّ وفق منظور استراتيجيّ طويل الأمد لا ينتج فائدة، بل يؤدّي إلى تكريس الواقع الكولونياليّ والفصل العنصريّ، وتدجين شرائح واسعة من النخب والمجتمع.
ينتظر من أيّ قيادة مسؤولة يتعرّض مجتمعها إلى أزمة حادّة، وإلى خطر حقيقيّ على وجودها، نقل ثقل اهتمامها الفكريّ والعمليّ والتخطيطيّ إلى الميدان الشعبيّ. أيّ ضرورة أن تلتئم الكفاءات الأكاديميّة والمهنيّة، والشبابيّة، ونشطاء العمل الشعبيّ، وتعمل على وضع استراتيجيّة عمل تتأسّس على دراسة كيفيّة نجاح حراكات شعبيّة متواصلة، في العالم، وحتّى في إسرائيل نفسها. علينا أن نسأل أنفسنا كيف يبدع منظّمو تلك الحراكات، ويولدون مزاجًا أو مناخًا كفاحيًّا متأجّجًا، وكيف يهيّئون ويبنون قدرات المشاركين في المظاهرات العارمة على الحضور الأسبوعيّ دون كلل. هذا ما يجب التفكير به جدّيًّا، والانتقال إلى الميدان.
التعليقات