'أصبح الفضاء من حولنا أزرق لامعاً، ولم نسمع صوتاً على الإطلاق، وكان كل ما شاهدناه بريقا قويا وقطع زجاج تتطاير وجدرانا تتهاوى، ولم ندرك حقاً ما حدث. احتاج الأمر إلى بضع دقائق لنكتشف أن ما حدث انفجار، وعلينا تأمين خروجنا بعد أن أحاطت بنا النيران من كل جانب.
'سارعنا لإطفاء ما يمكن إطفاؤه، لكن زميلنا المحاسب صابر حنون كان ينزف من رقبته وكأنه مذبوح بسكين حادة.....قفزت وأنا أمسك بزميلي صابر، وصلت إلى الأرض فإذا بموظفيّ الاستقبال صبحي علوان وسليم عيساوي قد استشهدا على باب المركز، بعد أن لحق بهما تشويه لا يوصف. كان مدخل المركز أشبه ما يكون بساحة حرب، دماء وأشلاء وخراطيم مياه وسيارات إسعاف تنقل جثثا محترقة. كانت زميلة لنا في الإدارة هي سعاد الحايك وسط الشارع، تصرخ صراخا مأساويا بعد أن فقدت قدميها، وكان ضباط الإسعاف يرون في حالتها حالة قابلة للتأجيل، نسبياً. نقلت للمستشفى لكنها فارقت الحياة فيما بعد.
'على الجانب الآخر من الرصيف، كان المدير العام للمركز صبري جريس يقف متمالكا نفسه على نحو بطولي، يعطي التعليمات السريعة، آثرت الوقوف معه، على رغم بعض الجروح في ظهري وكتفي، بفعل الزجاج المتطاير. أخبرني أن زوجته قد أصيبت، وأنها نقلت للمستشفى، ولكن سرعان ما علمنا أنها فارقت الحياة!'.
هكذا يصف سميح شبيب التفجير الذي نفذه عملاء الموساد في مبنى مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، في الخامس من شباط/فبراير العام 1983. هذا الانفجار أنهى المرحلة الثانية في حياة صبري جريس، والتي بدأت بمغادرته البلاد عبر مطار اللد عام 1970، ليلتحق العمل الوطني الفلسطيني من خلال منظمة التحريرالفلسطينية التي كانت في تلك الفترة تملأ الدنيا ثورة وكبرياء.
بدأت المرحلة الأولى عام 1958، بانخراطه في سن مبكر بتأسيس حركة 'الأرض'، التي تعرضت للقمع والملاحقة من قبل السلطات الإسرائيلية، وجرى إخراجها لاحقا عن القانون، ومطاردة قادتها وبينهم جريس بالسجن والنفي. عن ذلك يقول جريس، الذي التقيت به في بيته في قرية فسوطة، إن احتلال 67 طوى بالنسبة لهم الجزء الفلسطيني الذي تمثل بفلسطينيي الداخل، ليفتح ملف فلسطين وقضيتها الشاملة. 'وقد جذبني هذا ’المغناطيس’ أسوة بالآلاف وعشرات الآلاف من أبناء شعبنا في كل مكان، الذين انخرطوا في العمل الوطني الفلسطيني وانتقلوا عبر مراكزه المختلفة من عمان الى بيروت وصولا الى فلسطين'.
لم يفلت مركز الأبحاث الفلسطيني، الذي أداره صبري جريس في تلك الفترة، من العدوان الإسرائيلي. فما أن غزت قواتها بيروت الغربية في 15 أيلول/سبتمبر عام 1982، حتى قامت وحدة من هذه القوات بمهاجمة مبنى المركز واقتحامه، والقيام بنهب محتوياته وملاحقة المسؤولين فيه. وتولت وحدة عسكرية إسرائيلية، بمساعدة مدنيين وخبراء توثيق إسرائيليين، نهب موجودات المركز، وتحميلها بشاحنات عسكرية قامت بنقلها إلى إسرائيل، في أكبر عملية سطو على الذاكرة والتاريخ الفلسطيني. ورغم أن إسرائيل أعادت بعض محتويات المركز ضمن صفقة تبادل أسرى عام 1983، إلا أن جملة أسباب، منها الإهمال والبيروقراطية واللامبالاة، ساهمت في تبديد تلك المحتويات في صحراء الجزائر بينما فشلت كل محاولات إعادة افتتاحه في عاصمة عربية أخرى.
**نجاة جريس واستشهاد زوجته
التفجير الذي أسفر عن استشهاد ثمانية من موظفي المركز، بينهم زوجة جريس، وضع نهاية لمركز الأبحاث الفلسطيني، الذي كان يعتبر أهم مؤسسة فلسطينية في مجال البحث وحفظ الذاكرة الفلسطينية. وتشتت العاملون فيه، بينهم جريس نفسه، ما بين تونس ودمشق، ليمضي مثل غيره عقدا من السنوات العجاف هي سنوات 'لجوء الثورة'، قبل أن تنقل الانتفاضة الأولى مركز الثقل الفلسطيني إلى داخل الوطن وتنقل أوسلو قيادة منظمة التحرير إلى غزة ثم رام الله، وتمكن جريس من عودة يمكن اعتبارها 'غير مظفرة' إلى فسوطة.
هناك في بيته الكائن في أعالي الجليل، استقبلنا صبري جريس الذي يشارف على إنهاء العقد الثامن من عمره، وهو الذي بدأ الكفاح ضد تداعيات النكبة وترجماتها وضد الحكم العسكري وقيوده، فكانت تجربته الشخصية والسياسية من خلال حركة الأرض من المحاولات الفلسطينية الأولى في إرهاصات 'قيامة' الشعب الفلسطيني المجددة التي تمثلت بانطلاق ثورته المعاصرة عام 1965 .
لقد كان من أوائل الذين قرعوا جدران الخزان، ثائرا قبل الثورة ومثقفا في زمن القفر ومحامي دفاع ناجحا عن قضيته بالمعنيَين الفعلي والمجازي. فتجربته في حركة الأرض كانت من إرهاصات ومقدمات الثورة اللاحقة و كتابه 'العرب في إسرائيل' شكل مرجعا أوليا، ومعركة دفاعه عن 'الأرض' والشعب في ساحات القضاء الإسرائيلي والمحافل الدولية عبر المذكرة التي أرسلت للأمم المتحدة كانت نموذجا يحتذى.
**حركة الأرض والحزب الشيوعي: التحالف والانفصال
جلسنا في غرفة مكتبه الصغيرة، التي بدت بجدرانها القديمة ورفوفها العتيقة وكتبها المصفرة كأنها المحمية الطبيعية الباقية من مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت. إنها ما تبقى من الصرح الثقافي الذي ضمت مكتبته 25 ألف مجلد. وكي يؤكد أنه ما زال يمسك بزمام 'التاريخ'، يشير إلى 5 مجلدات، يبدو أنها نجت. وهي تضم وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية. وأوضح جريس أن 'في هذه الوثائق رسالة من موشيه شاريت، وزير الخارجية في حينه، إلى وزير الأمن، يطالبه فيها بأن تقوم سلطات الحكم العسكري بتسهيل عمل الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين العرب، وتيسير الدعاية الانتخابية في صفوفهم، لأن التصويت في أول انتخابات كنيست يساعد إسرائيل في الخارج'.
ثم يعود ليستدرك قائلا وكأنه خرج عن النص، إن 'الحزب الشيوعي كان قوة ثانوية بالنسبة لنا. فمشكلتنا في حركة الأرض، كانت مع السلطات الإسرائيلية وليس مع الشيوعيين، الذين كانوا يعملون في فلسطين واستمروا بالعمل في إسرائيل، التي تلقفتهم تلقفا كي تلقى أحدا من العرب يؤيد حقها في الوجود'.
وأضاف أن إسرائيل 'استشعرت الخطر من حركة الأرض لأنها رأت أن المد القومي والشعارات القومية التي أطلقها عبد الناصر، بدأت توقظ وتحرك الإحساس والشعور الوطني. ورأت فينا بداية تململ وانبعاث للحركة القومية الفلسطينية من تحت رماد النكبة، وإحياء لقضية الشعب الفلسطيني التي اعتقدت أنها قد طوت ملفه. وبنظرة إلى الوراء ندرك أن حركة الأرض لم تكن يتيمة، بل كانت تمثل بدايات الصحوة الفلسطينية وإعادة لملمة حطام الهوية الوطنية الفلسطينية التي هشمتها النكبة، وهي محاولات بدأت بالتوازي في الوطن والشتات. وقد نجحت إسرائيل بقمع حركة الأرض وحرمان هذه الحركة من حضن الوطن لفترة طويلة'.
**حركة 'الأرض' أولى محاولات النهوض بعد النكبة
من خلال التماس قدمه صبري جريس، عام 1964، ضد قرار متصرف لواء حيفا تسجيل 'جمعية الأرض' يمكن أن نكتشف الرؤية الفلسطينية الشاملة لمؤسسي الحركة. فقد جاء في البند الثالث من دستور الجمعية المرفق بطلب التسجيل والمشمول بالالتماس، أن 'الأرض' تدعو إلى إيجاد حل للقصية الفلسطينية من خلال رؤيتها كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، وفق إرادة الشعب العربي الفلسطيني، المتوافقة مع مصالحه وطموحاته والتي تعيد له كينونته السياسية وتؤمن له حقوقه الكاملة والقانونية، والتي ترى به كصاحب الحق الأول في تقرير مصيره بنفسه في إطار الطموحات العليا للامة العربية.
ويتضح من خلال هذه الصيغة المنطلقات الفلسطينية الأصيلة لحركة الأرض، التي كانت واعية لدورها في إعادة بناء الكينونة الفلسطينية التي دمرتها النكبة، وأنها كانت ترى بالشعب الفلسطيني وقضيته وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة وآمنت بحقوقه الكاملة. ورغم تأييدها الجارف لعبد الناصر، إلا أنها رأت أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الأول في تقرير مصيره بنفسه وذلك في اطار الطموحات العليا للامة العربية.
ويتضح أيضا أنها وجدت برياح المد القومي الناصري تربة مناسبة لإحياء قضية الشعب الفلسطيني الذي أدمته جراح النكبة، كما يقول صبري جريس، الذي يشير إلى أن إعلان إقامة الجبهة العربية/الشعبية في 14 تموز/يوليو عام 1958 قد صادف انطلاق ثورة عبد الكريم قاسم في العراق، وأن انفراط عقدها في العام 1959، أي بعد عام واحد على تأسيسها فقط، 'جاء بعد محاولة الشيوعيين السيطرة على ثورة الشعب العراقي ووقوع الخلاف بينهم وبين عبد الناصر، وامتداد هذا الخلاف الى ساحة الداخل الفلسطيني التي شهدت جدلا حادا بين الحزب الشيوعي وحركة الأرض، التي ربطت مصيرها بالمد القومي، الذي قاده عبد الناصر، ورأت فيه الأمل الوحيد للفلسطينيين والعرب في التحرر والانعتاق'.
وقال جريس إنه 'خلال تلك الفترة، التي امتدت من 1958 وحتى عام 1964، نشطت حركة الأرض جماهيريا، حيث حشدت ونظمت وعبأت على الاعتزاز القومي والانتماء الوطني الفلسطيني، مستفيدة من التأييد الجارف الذي حظي به التيار القومي بقيادة جمال عبد الناصر'. وأضاف أنه 'في 26.7.1956، يوم أعلن عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، وكنت حينها في الصف الحادي عشر أو الثاني عشر، دخلت المعترك السياسي لأني أدركت أنها بداية معركة بين قوى العروبة وبين الإمبريالية والصهيونية. وعندما أعلن عن إقامة الجبهة العربية وحركة الأرض كنت ناضجا لأنضم إليها وتحمل مسؤوليات فيها رغم صغر سني ورغم بطش السلطة'.
**المعركة القانونية وحدود الديمقراطية الإسرائيلية
المفارقة أن صبري جريس، الذي ارتبط اسمه بحركة الأرض أكثر من غيره من المؤسسين والقادة، أمثال صالح برانسي ومنصور كردوش وحبيب قهوجي، كان عام 1958، عند تشكيل 'الجبهة العربية'، التي غيرت اسمها لاحقا إلى 'الجبهة الشعبية'، في نهاية المرحلة الثانوية. وعام 1959، بعد الانفصال عن الشيوعيين وتأسيس حركة 'الأرض'، كان في سنته الجامعية الأولى في موضوع المحاماة في الجامعة العبرية في القدس.
ويبدو أن ثلاثة قضايا ربطت اسم جريس تاريخيا، أكثر من غيره، بحركة 'الأرض'، وهي الالتماس الذي قدمه باسم هذه الحركة، والمذكرة التي قدمها باسمها إلى الأمم المتحدة، وكتابه 'العرب في إسرائيل' الذي صدر في حينه باللغة العبرية.
وينبغي التذكير أن الحديث كان يدور عن فترة الحكم العسكري، الذي فرضته إسرائيل على البقية الباقية في وطنها من الشعب الفلسطيني، وهو الحكم الذي يصفه صبري جريس في كتابه 'العرب في إسرائيل'، بأنه 'يتدخل بحياة المواطن العربي من يوم ولادته وحتى وفاته، وهو صاحب الكلمة الأخيرة في جميع شؤون العمال والفلاحين والحرفيين والتجار والمثقفين وشؤون التعليم والخدمات الاجتماعية، حيث يتدخل في تسجيل الولادات والوفيات وحتى الزواج، ويتدخل في شؤون الأرض وتعيين وفصل المعلمين وموظفي الجمهور، ويتدخل أحيانا بشكل تعسفي أيضا بالشؤون الخاصة بالأحزاب السياسية، بالنشاطات السياسية والاجتماعية وفي شؤون المجالس المحلية والبلدية'.
وخلال تلك الفترة، استنفذت 'الأرض' جميع الحيل القانونية في معركتها من أجل حقها في التنظيم السياسي، حيث حاولت، كما يقول جريس، 'تسجيل شركة ورفضت وحاولت تسجيل حزب ورفضت وحاولت تسجيل قائمة انتخابية للكنيست ورفضت وحاولت الحصول على رخصة جريدة ورفضت وحاولت تسجيل جمعية ورفضت. وكان ادعاء عدم اعترافها بوحدة دولة إسرائيل وحقها في الوجود شاخصا في جميع القرارات الرافضة لإعطاء شرعية قانونية للحركة'.
وكتب القاضي أغرانات في قراره لدى رفض التماس قائمة 'الاشتراكيين'، التي قدمتها 'الأرض' للكنيست للتحايل على قرار رفض تسجيلها كحزب سياسي، 'أن هناك أمرا واقعيا يتمثل بقائمة مرشحين هدفها التوصل إلى القضاء على دولة إسرائيل"، بينما ذهب القاضي زوسمان، في قراره إلى تشبيه القائمة بمن "يريد أن يلقي قنبلة في الكنيست ولا يستطيع أن يلقيها من المدرج وهو يريد دخول القاعة عبر عضوية الكنيست لهذا الغرض، مشيرا إلى أن الدولة غير ملزمة بالموافقة أن يتم القضاء عليها ومحوها عن الخارطة'.
عن ذلك يقول صبري جريس، إن الحركة كانت تدعو إسرائيل إلى احترام وتطبيق القرارات الدولية وبضمنها قرار التقسيم أو بشقه الذي يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، وهو ما اعتبرته السلطات مسا بوحدة حدود إسرائيل إضافة إلى نفي حقها في الوجود. ويبدو أن إسرائيل عملت بإصرار منقطع النظير على محاربة الحركة وسحب الشرعية القانونية من تحت أقدامها وقمع نشاطها حيث تسنى لها في النهاية اعتقال ونفي قياداتها وتشتيت شملهم، إذ جرى اعتقال صالح برانسي وسجنه لتسع سنوات بتهمة تخطيطه لإقامة خلية مسلحة، وجرى نفي حبيب قهوجي إلى دمشق بعد اتهامه بالتجسس لصالح سورية، وغادر صبري جريس البلاد ليلتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت.
التعليقات