في دراسة نشرت في دورية "عمران" الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يجادل الباحثان أشرف بدر وعاصم خليل بأن "الرعاية الاستعمارية" التي مارستها إسرائيل في أراضي الـ67 تشير إلى حقيقتين، الأولى أن الوجود الإسرائيلي في هذه المناطق هو ليس احتلال عابر لفترة زمنية مؤقتة بل هو يندرج في إطار الاستعمار الاستيطاني وهو بهذا المعنى استكمال للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي بدأ في أراضي الـ48.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
أما الحقيقة الثانية التي تشير إليها هذه "الرعاية" فتتمثل بوجود تحول من منطق الإزالة والمحو التي تميز نماذج الاستعمار الاستيطاني في مناطق أخرى من العالم، إلى منطق إدارة السكان؛ وهو ما يفسر قيام منظومة يحكمها منطق المحو بالعمل على "رعاية" السكان بدلا من التضييق عليهم، من أجل تهجيرهم.
وتنوه الدراسة إلى أن هذه الفكرة هي محور سجال نظري، حيث يجادل باحثون بأن منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني تحولت من تبني منطق المحو إلى منطق التحكم والسيطرة، وذلك بسبب الفاعلية الفلسطينية، والفاعليتين الخارجية والداخلية، من دون التخّلي عن إمكانية المحو في حال توافر بيئة ملائمة.
وتفيد الدراسة - التي يعتبرها صاحبها إضافة نظرية جديدة لمفهوم الاستعمار الاستيطاني في السياق الفلسطيني - بأن الشائع في الدراسات المنشورة حول هذه الظاهرة هو الاستناد إلى أن المنطق الجامع للاستعمار الاستيطاني هو المحو، لكن الوقائع على الأرض، وبفعل عوامل عدة، من بينها الفاعلية الفلسطينية، والظروف الدولية والإقليمية، ساهمت في دفع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي إلى التحول من منطق المحو والإزالة إلى منطق إدارة السكان.
وتعرض الدراسة ما تجلى من هذا التحول، عبر تقديم المساعدات والدعم لبعض الفلسطينيين، والإعفاءات الضريبية للمؤسسات الدولية، والمساعدات الخارجية، والتكفل بالرواتب والتقاعد، مع ربط الأجور بغلاء المعيشة، إضافة إلى توفير قروض للإسكان في بعض الحالات.
كما تسلط الدراسة الضوء على أن سعي منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لرعاية السكان، وبناء شبكة زبائنية مصلحية في مناطق عام 1967 يتعارض مع تعريف الاحتلال باعتباره حالة مؤقتة، فهدف الرعاية تهدئة السكان وبناء شبكة زبائنية، لتسكين الأوضاع المدنية والتأسيس لوجود طويل الأمد في المناطق المحتلة، مشيرة إلى استخدام الحكم العسكري الإسرائيلي "الرعاية" أداةً للضبط والتحكّم والسيطرة، حيث انتهت سياسة المنع والمنح بالاستناد إلى مدى الانضباط والخضوع لمنظومة الحكم الاستعماري.
وتحاول المنظومة الاستعمارية، وفق الدراسة، من خال ممارسة الأبوية، الظهور بمظهر الراعي، لكنها في حقيقة الأمر تمارس الاستغلال، فعدا التدوير المالي وشراء المواد "المدعومة" من السوق الإسرائيلية، فإن مصدر أموال هذه الرعاية هو جباية الرسوم من السكان المحليين، وسرقة الموارد من الأرض المستعمرة؛ ما يؤكد طبيعة السلطة الاستعمارية الإسرائيلية التي تجمع بين الاستغلال الاستعماري وإدارة السكان على أساس التمييز العنصري، وهو ما يظهر في "تقنين" الفوارق في الأجور بين السكان المحليين والمستعمِرين، علاوة على التمييز في المواد الغذائية المدعومة للسكان الفلسطينيين، على قّلتها وتميزها بالرداءة، مقارنة بما يتلقاه المستعمِر.
ولربما نجح الحكم العسكري في توظيف "الرعاية" والمنع والمنح أداةً للضبط والتحكم والسيطرة لدى قطاعات من الشعب الفلسطيني، لكنه فشل كما تقول الدراسة، في تحقيق مبتغاه، استنادا إلى شواهد كثيرة، منها تفجر انتفاضة عام 1987 التي شارك فيها معظم شرائح الشعب الفلسطيني، وأثبتت فشل سياسات التحكم والضبط والسيطرة الاستعمارية التي يتبعها الحكم العسكري الإسرائيلي.
حول موضوع الدراسة وسياسة إدارة السكان عبر الضبط والتحكم والسيطرة التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بعد فشل سياسة المحو التي تميز الاستعمار الاستيطاني عموما، أجرينا هذا الحوار مع *د. أشرف بدر.
"عرب 48": يبدو مصطلح "الأبوية" مصطلحا إشكاليا حين يلصق بالاستعمار، لما يعنيه من تحسين صورة الاستعمار وتجميل وجهه لأول وهلة...
بدر: في الحقيقة فكرنا في تحاشي استعمال هذا المصطلح لما يثيره من إشكالية، كما قلت، والاستعاضة عنه بـ"الرعاية الاستعمارية" مثلا، إلا أن استخدام واعتماد المصطلح في الأدبيات العلمية التي بحثت الظاهرة في إفريقيا وغيرها، جعلنا (أقصد أنا ولجنة الإشراف على بحثي للدكتوراة) نعدل عن ذلك ونفضل استعمال المصطلح ذاته كي لا نخرج تجربة فلسطين من السياق الاستعماري التاريخي.
وجدير بالذكر أن الدراسة التي نتحدث عنها والمنشورة في مجلة "عمران" (بالتعاون مع الأستاذ عاصم خليل، المشرف على الدكتوراة)، مشتقة من رسالة الدكتوراة الخاصة بي، والتي بحثت منظومة التحكم والسيطرة الإسرائيلية في عهد الحكم العسكري الاسرائيلي من عام 1967 وحتى عام 1981 قبل أن يتحول إلى "إدارة مدنية".
وكما تلاحظ، فإن الدراسة اقتصرت على الفترة بين عامي 67 و77، لأنها فترة حكم حزب العمل، حيث انتقل الحكم في إسرائيل عام 77 لحزب الليكود، علما بأنه لم يحدث تغير جوهري بما يتعلق بالسياسات التي أرساها حزب العمل تجاه الأراضي المحتلة عام 1967، والتي قامت على أساس منظومة الضبط والتحكم والسيطرة، واعتمدت تجربة الحكم العسكري في أراضي 48 كأساس لها، مع بعض التعديلات.
"عرب 48": إنهم في الـ48 جاؤوا ليستعمروا البلاد ويبقوا فيها، لذلك حين يستنسخون تجربة الحكم العسكري تلك في أراضي 67، فمن الواضح أن احتلالهم جاء ليبقى وأنه استكمال لاستعمارهم الاستيطاني الذي بدأ في الـ48 واستمرار له، وليس احتلالا مؤقتا كما كانوا يدعون...
بدر: صحيح، وهذا ما يفسر أن هذا الاحتلال ما زال قائما منذ أكثر من 50 عاما، وفي موضوع الرعاية الاستعمارية فقد وجدت خلال بحثي للدكتوراة بعض الحالات تتمثل في إعطاء قروض لبعض المزارعين، فأخذت أبحث عن شبيه لها في محاولة للوصول إلى جذورها في الأدبيات العالمية، فوجدت أنها تحدث في "الأبوية الاستعمارية"، وبعد نقاش مع لجنة الإشراف، كما ذكرت، قررنا استعمال المصطلح ذاته للحفاظ على الرابط بين تجربة فلسطين مع التجارب الاستعمارية الأخرى في العالم، خاصة وأنها امتداد للتجربة الفرنسية والبريطانية.
في المستوى النظري، أنا أعارض في الدراسة أهم منظري الاستعمار الاستيطاني وهو باتريك وولف، الذي يستعمل المحو الإبادي في مجادلته الأساسية وفي دراساته، في تعريف منطق الاستعمار الاستيطاني، وهو كما يبدو تأثر بتجربة أستراليا وأميركا الشمالية، إذ أنه لم يقم بأي بحث في فلسطين، وعندما كتب عن فلسطين كتب مادة نظرية ليس لها علاقة بالميدان، وعندما نزلت أنا إلى الميدان وبحثت في الأرشيف وأجريت مقابلات، وجدت أن الأمر يختلف.
"عرب 48": في الجزائر وجنوب إفريقيا أيضا لم تكن هناك إبادة فعلية كما حصل في أستراليا وأميركا الشمالية...
بدر: صحيح، حتى أن وولف في محاضرة له لا يعتبر أن حالتي الجزائر وجنوب إفريقيا تمثل استعمارا استيطانيا بحسب النموذج الخاص به، علما بأن هذا المصطلح جرى استخدامه من قبل كتاب عرب وفلسطينيين في وقت مبكر.
"عرب 48": كما هو معروف، جرى استخدام هذا المصطلح في بدايات الثورة الفلسطينية على نطاق واسع، ومؤخرا عادوا لاستعماله بعد أن أعيد له الاعتبار على المستوى العالمي...
بدر: مؤخرا أنشأت مجلة عالمية تبحث في هذا الموضوع، أحد محرريها هو باتريك وولف، لكن الأمر الذي نحاول أن نجادل فيه أنا ونديم روحانا وأريج صباغ خوري وآخرون، أن وولف أعطى لظاهرة الاستعمار الاستيطاني "بنية" لا تتأثر بالفاعلين، أي منظومة ثابتة، في حين أننا نرى أن الموضوع هو عملية وصيرورة تتأثر بالفاعلين داخل المستعمرة، وفي حالتنا الفلسطينيين، الذين يستطيع فعلهم أن يغير ويبدل.
الاستعمار الصهيوني بدأ بمنطق المحو في الـ48، فكان هناك المحو المركز والتهجير والتطهير العرقي من 47 وحتى 49، علما بأن الهجرات الأولى إلى فلسطين التي حدثت في بدايات القرن العشرين، تميزت بنوع من التعايش والاندماج، وفي الـ56 عندما جرى احتلال قطاع غزة خلال الحرب (العدوان الثلاثي على مصر) لبضعة أشهر، وارتكبوا مجزرة كفر قاسم، كان هناك مخطط تهجير غير معلن لقطاع غزة ولما تبقى من فلسطينيي 48، وعندما فشل، توصلوا إلى قناعة بأن عليهم أن يتعايشوا مع هذه المجموعة السكانية، ضمن ضبط وتحكم وسيطرة، وهو ما حصل خلال فترة الحكم العسكري وما زال قائما حتى اليوم بوسائل مدنية، وانسحب على الضفة الغربية وقطاع غزة أيضا.
"عرب 48": لكن فكرة الإبادة ومنطق المحو ظلت موجودة وما يحصل في قطاع غزة اليوم يعكس هذا التوجه...
بدر: نعم، هي فكرة مستبطنة وقائمة بانتظار ظروف سانحة كالحرب على غزة، وإلى ذلك الحين يجري إدارة السكان، ومثال قطاع غزة الحالي دليل آخر على دور الفاعل الفلسطيني، فقد كان الهدف تهجيرهم إلى سيناء، ولكن صمود الشعب وموقف النظام المصري وعوامل إقليمية ودولية أخرى أفشلت هذا المخطط.
هذا يقول إن المحو موجود في العقلية الصهيونية بمفردات مختلفة مثل الإبادة والتهجير، لكن الشيء الذي نؤكد عليه ككتاب وباحثين أن الفاعلية الفلسطينية غيرت واستطاعت أن تفرض واقعا جديدا وإلا كنا كفلسطينيين مثل الهنود الحمر، أي أن الفاعلية الفلسطينية هنا أفشلت وغيرت منطق الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
"عرب 48": ربما لأننا في فلسطين أمام شعب مؤسس وليس مجموعة قبائل كما كان حال الهنود الحمر؟ نحن نعرف أن شعار الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هو شعار تضليلي لأنه فلسطين كانت عامرة بأهلها وحواضرها فعليا...
بدر: صحيح، في ال 48 فشلوا في تهجير كل السكان وفي ال 67 فشلوا في تكرار التجربة ولم يهجر سوى الجزء اليسير منهم، وبالتالي اضطروا الى اللجوء الى سياسة الضبط والتحكم والسيطرة، وهي "الابوية الاستعمارية" القائمة على المنح والمنع بمعنى مكافأة من يسكت ومعاقبة من يثور، وهي سياسة استعمارية فرنسية بريطانية هدفها كسب السكان وبالتالي جعلهم يقارنون بين وضعهم تحت الاحتلال ووضعهم تحت الأنظمة العربية.
الرعاية الاستعمارية تهدف الى عدم تثوير الناس من خلال صرف انتباههم عن ان الاحتلال او الاستعمار هو السبب في سوء حالهم، وجعلهم يفكرون في تحسين احوالهم تحت الاستعمار او الاحتلال، وهي من ناحية تضمن منع تثوير الناس ومن ناحية ثانية تساهم في تجميل صورة الاحتلال امام العالم كاحتلال متنور، إضافة الى ان تحسين أوضاع الناس يعود بفائدة اقتصادية على الدولة الاستعمارية أيضا.
"عرب 48": هذا النقاش يدور اليوم بالنسبة لغزة، بين احتلال مؤقت أو إقامة حكم عسكري، لكن في الـ67 السرعة التي انتقلوا فيها إلى إدارة السكان تشير إلى وجود مخطط مبيت، فأنت تشير إلى أنهم دفعوا معاشات موظفي الدولة بعد شهر فقط...
بدر: بل في نفس الشهر، فقد دخلوا في الخامس من حزيران/ يونيو ودفعوا المعاشات في الأول من تموز/ يوليو، والأرشيف يفيد بوجود خطط جاهزة حتى أنه جرى بحث عام 1965 حول موضوع احتلال الضفة الغربية.
كما أن السيناريوهات التي يجري تداولها اليوم بالنسبة لغزة، مطروحة منذ عشر سنوات، أن يدخلوا غزة ويجلبوا قوات دولية أو يسندوا إدارتها للسلطة الفلسطينية، لكن أن ينجح أو يفشل هذا السيناريو أو ذاك هو أمر مرتبط في نهاية المطاف بالمعطيات على الأرض، يتحدثون عن فاعلين هم معتادون أن يفرضوا إرادتهم عليهم، ولكن عندما يخرج فاعلون آخرون تفشل مخططاتهم، وهو ما نراه بوضوح في غزة، حيث يفشل صمود الشعب الفلسطيني جميع هذه المخططات.
*د. أشرف بدر: زميل باحث في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، حاصل على دكتوراة في تخصص العلوم الاجتماعية/ جامعة بيرزيت (2022)، عنوان الأطروحة "منظومة التحكم والسيطرة للحكم العسكري الإسرائيلي في المناطق المستعمرة عام 1967 في الفترة ما بين 1967-1981 البيوسلطة الزراعية كمدخل"، وحاصل على الماجستير في الدراسات الإسرائيلية/ جامعة القدس عام 2014، حيث تم نشر الرسالة على شكل كتاب صدر عام 2016 تحت عنوان: "إسرائيل وحماس: جدلية التدافع والتواصل والتفاوض 2014-1987"، وله عدة أبحاث ودراسات في مجاله.
التعليقات