سنناقش في هذه المقالة كيف تم تفريغ قرية السنديانة من سكانها عام النكبة استنادًا إلى رسالة موجهة إلى الخواجة يعقوب آبشتن، مختار مستعمرة زخرون يعقوب، وهي موجودة حاليًا في أرشيف إسرائيلي، ويمكن تحديد تاريخها بأنه بعد سقوط قرية السنديانة في 12/5/1948 بشهر أو أكثر، وكتبها لاجئ من هذه القرية ثم أرسلها مع أخيه محمود الذي تسلل خفية إلى المستعمرة المذكورة وسلمها إلى يعقوب. بناءً إلى ما ورد في الرسالة يمكننا أن نستنتج أن العلاقات بين المرسل والمرسل إليه كانت حميمية جدًّا وقديمة ومبنية على تفاهمات مسبقة، إذ طالب المرسل في رسالته بأن يقوم يعقوب بالتصدي للمناضلين العرب الذين يعودون إلى بيوتهم لجمع ما تبقى من أموالهم وممتلكاتهم، وأن ينسف بيوتهم القائمة حتى يحطم آمالهم في العودة إلى قرية السنديانة. لست ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة في تفسير تاريخ النكبة، ولكني في هذه المرة سأُجازف لأقول إنه كانت هناك مؤامرة صهيونية لتهجير أهالي السنديانة، وأن كاتب الرسالة كان ساذجًا بحيث وافق على مغادرة قريته مع أقاربه إلى حين تنتهي الحرب مكتفيًا بوعد شفوي من الخواجه يعقوب. لن أذكر اسم المرسل لأن هذا ليس لبّ القضية، ومن أجل فهم مضمون الرسالة وحيثياتها لا بد من شرح النقاط التالية:
1. السنديانة هي قرية مهجرة من قرى بلاد الروحاء. تقع على بعد 29 كم من حيفا في الاتجاه الجنوب الشرقي، وتحدها من الشرق صبارين ومن الغرب بريكة وبنيامينا وزخرون يعقوب وإلى جنوبها يمر وادي الزرقاء(التماسيح). وصل عدد سكانها عام 1948 إلى 1390 نسمة. أما أهم العائلات التي سكنت القرية فكانت: الجانم، آل مقبل (البواقنة)، آل نزال(النزازلة)، السوالمة، العصافرة، الزيادنة، المياتنة، السراحنة، أبو لبدة، الجوابرة والكنوخ.
2. في ليلة الجمعة 23/12/1938 قام ثوار تابعون لفصائل يوسف سعيد أبو درّة بقتل الشيخ محمد المقبل وابنه عبد الكريم وكليهما من حمولة البواقنة لأسباب لا حاجة لذكرها الآن، وكان ذلك الحادث بداية لفتنة دموية ذهب ضحيتها أيضًا من الطرف الآخر الحاج مرشد قاسم نزال الذي قتل في 28/6/1939. وقد اتهم بقتله رسمي شاكر الشيخ محمد المقبل الذي حكم عليه بالسجن المؤبد. هذه الفتنة أرهقت القرية وأوهنتها ومنعت أهلها من الدفاع عنها بتاتًا عندما أزفت ساعة الحسم في 12 أيار 1948م حين هاجمتها قوات الإيتسل مع أربع قرى أُخرى وهي بريكة، صبارين، أُم الشوف وخبيزة.
3. من الجدير بالذكر أنه كان قد عُقِدَ في السابع من أيار في بيت الحاج علي الميتاني اجتماع مصالحة بين المعسكرين المتناحرين (خمسة أيام قبل سقوط القرية) لكن هذا الاجتماع فشل ولم تطلق على المهاجمين يوم الاقتحام طلقة واحدة في حين شارك مسلحون من القرية في معركة كفر قرع في 8/5/1948. (راجع كتاب بلاد الروحا في عهد الانتداب لنمر سرحان ومصطفى كبها)
4. حظي يعقوب آبشتن بلقبين أحدهما لدى اليهود الذين لقبوه يانكو، والثاني لدى العرب الذين دعوه يعقوب المختار. نال يعقوب لقب مختار بالوراثة عن والده يوسف الذي كان من أبناء الجيل الثاني المؤسسين لمستعمرة زخرون يعقوب، والذي كان مختارًا للمستعمرة لسنوات كثيرة منذ أواخر أيام العثمانيين. أما أبنه يعقوب فلم يكن مختارًا أبدًا كوالده، ولكنه ترعرع منذ نعومة أظفاره بين العرب في المنطقة، وتعلم لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وما يرضيهم وما يغضبهم، وأصبح مع مرور الزمن المسؤول عن الصادر والوارد من المستعمرة وإليها بكل ما يخص العرب المحليين، ولذلك استغل لقب مختار لحاجته إلى إنشاء علاقات مع جيرانه العرب رغم أنه لم يحظ بهذا اللقب بصورة رسمية. عمل يعقوب آبشتن سمسارًا للأراضي وأوهم كثيرًا من العرب بأنه يحابيهم ويذب عنهم ويعمل لصالحهم، وقد أشار بعض من عاصروه إلى أنه كان مستعدًا للذهاب إلى أبعد مكان باحثًا عن المال! عمل حارسًا لحقول المستعمرة المذكورة وعلى هذه المهنة كان معاشه بالإضافة إلى حقل صغير كان يدر عليه بعض المال. اعتاد يعقوب أن يركب فرسًا أصيلة وجميلة ويتجول في أرجاء المستعمرة وحقولها. في ليلة 23/12/1938 قتل ثوار الشيخ محمد المقبل وابنه عبد الكريم، فلما علم يعقوب آبشتن بذلك قام بدعوة جميع أفراد عائلة مقبل للحضور إلى مستعمرة زخرون يعقوب حيث استضافهم وأسكنهم فيها إلى أن هدأت الأمور وتهيأت الأسباب لعودتهم إلى قريتهم. كان هذا الحادث نادرًا جدًّا ويبدو أن يعقوب آبشتن كان قادرًا على فعل ذلك حيث قام بإقناع الوكالة اليهودية بتغطية جميع المصاريف. في 10/11/1948 قدّم أريه سمسونوف وهو ابن إحدى العائلات المحترمة في مستعمرة زخرون يعقوب تقريرًا عن يعقوب آبشتن اتهمه فيه بأنه عميل للعرب ويجب محاكمة بتهمة الخيانة، واستشهد بأن آبشتن حذر أهالي السنديانة من أن اليهود عازمون على احتلال القرية قبل يوم واحد فقط من التنفيذ. من الواضح أن النتيجة النهائية كانت هروب أهالي السنديانة من قريتهم وقد صَبَّ ذلك في مصلحة الصهاينة، ولكن ماذا كان سيحدث لو احتاط أهالي السنديانة وقاوموا المحتل! الجواب أن هذا الاحتمال لم يكن واردًا إذ ورد في الرسالة التي نحن بصددها أن المرسل وأقاربه نزحوا عن القرية في 8/5/1948 قبل احتلال الإيتسل للسنديانة بثلاثة أيام بناءً على اتفاق مسبق مع يعقوب آبشتن على أن يعودوا إليها بعد أن تنتهي الحرب. فلا غرو أنه بعد تسليم باقة الغربية لإسرائيل في 22/5/1949 تجمهر عدد كبير من سكان السنديانة رجالًا ونساء وأطفالًا مطالبين بالعودة إلى قريتهم معتمدين على الوعد الذي قطعه يعقوب آبشتن على نفسه بذلك ولكن طلبهم هذا رفض رفضًا باتًّا، والأنكى من كل ذلك أن رجال الشرطة العرب، ممن جندتهم إسرائيل حسب اتفاقية رودوس، أُمروا بإلهاب ظهور المتجمهرين بالسياط والهراوات لتفريقهم.
5. إن كاتب الرسالة هو وجيه من وجهاء قرية السنديانة وأرسلها إلى يعقوب آبشتن مع أخيه محمود، والوثيقة تكشف حجم المؤامرة التي حاكها المذكور لتفريغ قرية السنديانة من سكانها، وهو الذي أوقع بعدد من رجال قريته في كمين ما أدى إلى استشهاد أحدهم وجرح وأسر آخرين عندما عادوا إلى السنديانة لفك الماكنة (الماتور المنصوب على البئر)، وعليه لا صحة للرواية التي تقول إن الواشي كان واحدًا من سكان قرية باقة الغربية كما يقول نمر سرحان ومصطفى كبها في كتابهما بلاد الروحا في عهد الانتداب-السنديانة نموذجًا.
6. يذكر كاتب الرسالة أن صبري أحمد الحمد وفضل الحاج مرشد وأنصارهما جعلوا، سابقًا، من السنديانة مركزًا لنشاطهم ضد المستعمرات اليهودية مثل زمارين (زخرون يعقوب) وشفيا وبنيامينا وأم الجمال(بات شلومو) لينالوا الزعامة في بلدهم، ولكن كاتب الرسالة وأنصاره تصدوا لهم ومنعوهم من ذلك.
7. أن المرسل يعيش كلاجئ في ظروف عصيبة وصعبة، وأنه ترك جميع ما يملك في السنديانة ظنًّا منه أن مدّة النزوح ستكون قصيرة، وهو ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب حتى يعود إلى قريته، وقد ذكر أن قسمًا من سكان القرية لجئوا إلى يعبد وقباطية وراحوا يتسللون لإحضار كل ما يمكن حمله. حاليًا، يعيش المهجرون في مخيمات جنين وطولكرم والفارعة وبعضهم في مدينة إربد ومخيمها، والقليل منهم يعيشون في أم الفحم وباقة الغربية وباقة الشرقية والنزلة ويعبد وقلنسوة، بينما أُقيمت على أراضي قريتهم السنديانة في عام 1949م مستعمرة اسمها أفيئيل.
8. يقول المرسل في رسالته إن دعاة السوء أخبروا المسؤولين بأنه وجماعته يتواصلون مع الهاغاناه، وأنهم طلبوه لأجل التحري والتحقيق وحتى الآن موجود تحت الرقابة لأنهم نسبوا إليه كل ما وقع في السنديانة وصبارين وأُم الشوف وكفر قرع والطنطورة. هذه المعلومات تفيد بأن الرسالة كُتبت بعد مذبحة الطنطورة في 22/5/1948 وعليه من حققوا مع المذكور كانوا من المسؤولين في الجيش العراقي. من الجدير بالذكر أنه كان لمختار زخرون يعقوب دور في سلب أموال أهالي الطنطورة بعد المذبحة.
9. يُلمح كاتب الرسالة إلى أن قسمًا من أهالي السنديانة اتصل برجال الهاغاناه تمهيدًا لتسليم القرية لهم. في تقرير وجدناه في أرشيف الهاغاناه مؤرخ في 11/5/1948 تحت عنوان 'السنديانة تطلب سلامًا' جاء فيه أن سكان السنديانة توجهوا إلى رجال زخرون يعقوب باقتراح مفاده الاستسلام حسب الخطة التالية: 'يحيط اليهود بالقرية. كلا الجانبين يطلقان النار في الهواء، وبعد المعركة الوهمية يدخل الجيش اليهودي إلى المكان ويسيطر عليه. هم مستعدون لقبول حكم يهودي على القرية بمحض إرادتهم، ولكن بشرط أن تبقى قواتنا في المكان لأنهم يخشون بعد استسلامهم أن ينسحب اليهود وساعتها سيعاقبون على يد العرب'.
وفيما يلي نص الرسالة:
عزيزي الخواجه يعقوب آبشتن المحترم
بعد تقديم واجبات الاحترام والسؤال عنكم وعن صحة سلامتكم التي هي عندنا غاية القصد والسير والمراد. عزيزي نُعرّفكم من تاريخ الحوادث التي كنا ننتظر وقوعها التي سببت النزوح والمفارقة وجعلت الإنسان في زروف(ظروف) عصيبة، وكل هذا تلقينا هذه الحوادث بصبر وكل المصائب التي كانت دعاة السوء تبثها ضدنا من جهة المواصلة وإخبار من جهة المودة ومعلوميات التي كنا نراسلكم بها وهذه الدعاية كانت محصورة من قبل صبري أحمد الحمد وفضل الحاج مرشد من قريتنا المذكورة لأجل يتصلوا إلى مآربهم حسب ما كانوا يُروّجون عن هذه الطريقة لأجل أن يتخذوا بهذه الواسطة قيادة في السنديانة لجعلها مركزًا لهذه الغاية، المقصود منها قيام بأعمال ووقوع الضرر بالجوار مثل زمارين والشفية وبينيامينا وأم الجمال وكانت النتيجة وقفنا لهم ولم نمكنهم من ذلك، وهذا كله حضرتكم أطلعناكم على كل شيء كان يحدث ونعلمكم بذلك، فعليه عندما عجزوا ولم يتمكنوا من أعطاء صلاحية عمدوا إلى الرحيل ودب الرعب في قلوب السكان وصاروا يتربعون في القرية وفي القرى المجاورة وبأن الهاغناه في كل ليلة تكون في السنديانة وأن الجماعة متفقين مع أهالي زمارين لتسليم السلاح في القرية وخلافها. وفي هذه الطريقة أقنعوا كثيرًا من الناس المجاورين وهذا السبب الذي حملنا مع العلم قبل أن رحلنا بعثنا أخينا محمود وأعلمكم بكل شيء وأنه لم يبقى (يبق) في القرية سوى عائلتنا وعموم العائلات رحلوا قبل الوقت، وعليه نُعرّفكم أننا خرجنا من السنديانة في تاريخ 8/5/(1948) وتركنا جميع ما في محلاتنا على ما هي عليه من أثاث وخلافه ولم نتمكن من قيام أي شيء كوننا مطمئنين على أن لا يحدث شيء في القرية كونكم تعرفوا أن الشيء الموجود في المحلات يخصنا، ومع الأسف كان الشيء بالعكس، وكنا مفكرين عند احتلالكم للقرية تحافظوا علينا من جهة التعدي ولم تمكنوا أحد أن يتوصل إليها وكانت هذه فائدة إلى الجماعة مثل فضل وصبري لأن كل ليلة يحضر جماعة مع صبري وفضل من يعبد وقباطية ونهبوا جميع ما في المحلات وما في نواحي القرية، ومن جملة ما جابوا الشوالات فارغة وكاز الماكنة، وكل هذا ونحن منتظرين أن تنتبهوا إلى هذه الأعمال وتربطوا لهم ولكن ما حصل شيء، واستمروا كل ليلة وهم يفتخرون بكل شيء يأخذونه من السنديانة لأنها سمحت لهم الفرصة، فعليه نحيطكم علمًا بأن هذه الأعمال التي كانت نتيجتها الخراب والدمار الذي حصل علينا نتيجة اطمئناننا من جهتكم والنتيجة كانت. وعليه نعرفكم إذا كان يهمكم الأمر والمقابلة في الأعمال الذي ترى أن تقابلوا في مثل هذه مثل ما قابلتونا، لأن الكل يعرف مهمة عملكم من إنسانية وخلافها في القرية يبثوا، وعليه نعرفكم أنه توجد محلات لهم في القرية بحيث تنسفوها وتهدموها وتخربوا عليهم مثل ما جرى علينا، وهذا شيء متفاهمين عليه سابقًا حتى نرتاح من هذه الجراثيم التي رئيسها الفساد والنفاق، ونعرفكم في الأشخاص الذين يجب أن تنسفوا محلاتهم وهم: صبري أحمد الحمد، وفضل الحاج مرشد، وعبد الكريم الأحمد، ونجيب القاسم، وعرسان محمد، وطالب مصطفى الحمدان وأخوه، وعلي المسعود، وعبد السلام وأسعد الحسن، ونتأمل أن تلبوا إجابة الطلب، والمعروف أن حسين حسن الكنوخ موجود في حوش أبو غزال وهو الذي يعرفكم عن المحلات، مع العلم أن قواتكم نسفت في جميع القرى ويجب عليكم أن تقوموا بهذه المهمة. نطمئنكم بأننا كلامنا من تاريخ ما خرجنا من القرية وجدنا دعاة السوء أمامنا مسمعين جميع المسؤولين بأننا مع الهاغناه وطلبوني لأجل التحري والتحقيق ولحد الآن ونحن تحت الرقابة لأنهم نسبوا كل ما وقع في السنديانة وصبارين وأم الشوف وكفرقرع والطنطورة بأن لنا صلة بهذه الحوادث، وعلى كلًا (كل) إن شاء الله عن قريب تزول هذه العوارض والعقبات بطريقة سلمية وسيجمعنا الله سبحانه وتعالى حسب ما كنا عليه والختام نهديكم جزيل السلام.
اقرأ/ي أيضًا | بمناسبة مسيرة العودة: تعرف إلى قرية لوبية (لوبيا) المهجرة.../ د.محمد عقل
التعليقات