تأمرنا السّلطات الإسرائيليّة، من خلال هذه اللّافتة، أن نرى فقط الوجود اليهوديّ وأن نغمض أعيننا عن الوجود الفلسطينيّ، حتّى ذلك الّذي ما زال ظاهرًا فوق الأرض.
راودني في إحدى اللّيالي حلم مزعج. حلمت بأنّني أعيش في سنة 4016 ميلاديّة، وأنّني أرى مجموعة من علماء الآثار الأجانب يحفرون في الأرض، على قمّة إحدى التّلال في قرية يالو قرب قرية عمواس قضاء الرّملة، يبحثون عن شيء ما. بعد عدّة ساعات سمعت منهم صيحات فرح ورأيتهم يتصافحون ويهنّئون بعضهم البعض. أراهم يرفعون لافتة قديمة شبه مهترئة عليها كتابات بالعبريّة. سمعت أحدهم يقول إنّ هذا إثبات على أنّ اليهود كانوا في هذه البلاد قبل 2000 سنة. ليس هذا فقط، بل إنّه لم يكن سواهم في المنطقة. بدأت أصرخ: لا، هذا غير صحيح، أنا عشت في تلك الفترة، وأنا أعرف المنطقة، بل أعرف هذه اللّافتة، إنّها تكذب، نعم هذه اللّافتة تكذب... تجاهلوني وبدأوا بمغادرة المكان كالمنتصرين.
أفقت من نومي مذعورًا. كان الوقت فجرًا. عند الصّباح ذهبت إلى ذلك المكان وكأنّني ما زلت في الحلم، ذهبت لأتأكّد أنّ اللّافتة هناك وأنّ الزّمن ما زال عام 2016 وليس عام 4016.
تهويد
هذا الكابوس يراودني كثيرًا لأنّني أدركت مع الوقت قوّة اللّافتات الّتي تزرعها السّلطات الإسرائيليّة، ومدى تأثيرها في صياغة الوعي وتشكيل الفكر وتحديد المعلومات الّتي تريد للنّاس أن يذوّتوها، والمعلومات الّتي تريد لهم أن يتجاهلوها. فهي تبلور بواسطة اللّافتات والنّصّ المكتوب عليها هويّة الحيّز، وتبثّ من خلالها رسالة سياسيّة تخدم أهدافها. من هنا تنظر الحركة الصّهيونيّة ودولة إسرائيل ببالغ الأهميّة إلى تهويد الأسماء في أنحاء البلاد، فأقامت منذ ما قبل تأسيس الدّولة، عام 1925 تحديدًا، 'لجنة أسماء البلدان' التّابعة للصّندوق القوميّ اليهوديّ (كيرن كييمت)، والّتي أصبحت عام 1950 لجنة الأسماء الحكوميّة، وهي ما زالت قائمة حتّى اليوم. مهمّة هذه اللّجنة البحث عن أسماء عبريّة أو معبرنة ومنحها للبلدان والمواقع والجبال والوديان بدلًا من الأسماء العربيّة. وثمّة لافتات كثيرة، لا سيّما في المتنزّهات والحدائق العامّة، تتضمّن شرحًا عن المكان والمنطقة الّتي نُصِبَتْ فيها، لكنّها تغفل في غالب الأحيان التّاريخ العربيّ والوجود الفلسطينيّ، وتتحدّث أساسًا عن تاريخ اليهود.
وهكذا، عبر هذه النّصوص المكتوبة على اللّافتات، تنجح الدّولة اليهوديّة في كيّ وعي الجمهور وغسل دماغه بشكل مكثّف، وإرغامه على معرفة وتذويت تاريخ يهوديّ، مفترض أو حقيقيّ، لهذه البلاد، وربطه بالاستعمار الحديث لفلسطين من قبل الحركة الصّهيونيّة. يشهد الإنسان الفلسطينيّ إلغاء وجوده ومحو هويّته أمام أعينه، فيجول في أنحاء حيّزه المسلوب ساخطًا محبطًا، ما يجعل هذه الظّاهرة كابوسًا مستفزًّا له في يقظته وخلال منامه، مثلما يحدث لي.
'مطلّ سهل أيلون'!
لافتتي الّتي تحضرني في المنام غُرِسَتْ قبل عدّة شهور على تلّة في قرية يالو المهجّرة منذ عام 1967، والّتي بُنِيَ على أنقاضها متنزّه تابع 'للكيرن كييمت'، اسمه 'پارك كندا'، في منطقة اللّطرون. هي واحدة من أكثر اللّافتات وقاحة وكذبًا؛ فهي تقع داخل الضّفّة الغربيّة دون أيّ إشارة إلى ذلك، لا في هذه اللّافتة ولا في المتنزّه بعامّة. تقول اللّافتة (انظروا الصورة) وعنوانها 'مطلّ سهل أيَلون': يمنح المطلّ إطلالة على المنظر الخلّاب في المنطقة. من هنا يمكن وبشكل جيّد تمييز المنحدرات الغربيّة لجبال القدس وجبال بيت إيل، المكوّنة بأغلبها من الكلس الصّلب، وهي تتدلّى غربًا نحو تلال السّهل المكوّنة من صخور الطّبشور النّاعم...' وبعد الشّرح عن طبيعة المنطقة، تقول اللّافتة: 'المدينة الكبيرة في الشّمال هي موديعين، والبلدة في الجنوب هي كيبوتس شعلبيم. في أسفل المطلّ تقع البلدة الجماهيريّة مـڤـو حورون. الحوض المحاذي للبلدة يجمع مياه المجاري المنقّاة من معمل أيَلون لتنقية مياه الصّرف الصّحّي ومياهه تسقي الحقول المحيطة.'
ما يهمّنا في هذا النّص، هو الجزء الذي يذكر أسماء البلدان. فمدينة موديعين الّتي أُقيمت على أنقاض عدّة قرى فلسطينيّة مهجّرة منذ عام 1948، مثل البرج وكنّيسة وعنّابة وخرّوبة وبرفيليا، تكاد تظهر بصعوبة من مكان اللّافتة، وكيبوتس شعلبيم الّذي أُقيم على قرية سلبيت المهجّرة هو أيضًا بالكاد يُرى من تلك النّقطة؛ أمّا مستوطنة مـڤـو حورون الواقعة في الضّفة الغربيّة، فبُنِيَتْ على أرض قرية بيت نوبا المهجّرة منذ 1967.
نفي وتزوير
لم أتوقّع أن تذكر اللّافتة أسماء القرى الفلسطينيّة المهجّرة، لكنّ الصّدمة هي في الفرق بين المنظر الحاليّ الموصوف في اللّافتة، وبين ما يمكن رؤيته فعلًا. فحينما تصرّ اللّافتة على أن نرى البلدات اليهوديّة، فهي لا تتجاهل فقط القرى الفلسطينيّة المهجّرة، إنّما القرى الفلسطينيّة الّتي ما زالت موجودة ورابضة على سلسلة الجبال المقابلة، مثل بيت لقيا، بيت سيرا، (خربة) خربثا المصباح، بيت عور التّحتا، بيت عور الفوقا، صفا. وقد شرحت هذه اللّافتة الوقحة عن الجبال من ناحية جغرافيّة دون أن تذكر اسم أيّ قرية فلسطينيّة قائمة عليها، وهي هناك أمام أعين النّاظرين (انظروا الصّورة).
تأمرنا السّلطات الإسرائيليّة، من خلال هذه اللّافتة، أن نرى فقط الوجود اليهوديّ وأن نغمض أعيننا عن الوجود الفلسطينيّ، حتّى ذلك الّذي ما زال ظاهرًا فوق الأرض. هذه الصّلافة في نقل الصّورة بهذا الشّكل المشوّه، رغم وضوحها، نابعة من رغبة مجنونة وحاجة مرضيّة لدى الاستعمار الإسرائيليّ لإثبات علاقته بهذه الأرض ونفي كلّ ما هو فلسطيني؛ بالإضافة إلى أنّ هذا 'الإرشاد' المنصوص في اللّافتة ما هو إلّا استهتار بعقول النّاس، ودلالة على أنّ العنصريّة والعنجهيّة الإسرائيليّة فد طغت على أبسط قيم المصداقيّة. فهذه ليست معلومة تاريخيّة عصيّة الإثبات حول الماضي البعيد، إنّما وقاحة حيّة لتزوير الحاضر.
وثيقة
هذا النّص هو وثيقة، ويمكن أن تصل هذه الوثيقة يومًا ما إلى أرشيف ما، وربّما تكون وثيقة يُعْتَمَدُ عليها في المستقبل، لنفترض بعد مئات السّنين، ليقول قائل: ها هي اللّافتة تذكر البلدات اليهوديّة ولا تذكر غيرها، هذا إثبات على أنّ اليهود كانوا في المنطقة ولم يكن فيها سواهم.
في اليوم التّالي ذهبت إلى حيث اللّافتة، ودفنت إلى جانبها لافتة أخرى باللّغة العربيّة، وكتبت عليها: 'هنا قرية يالو الفلسطينيّة، وما كان يسمّى ’پارك كندا‘ أُقيم على أراضيها وأراضي عمواس وبيت نوبا ودير أيّوب. هذه قرى فلسطينيّة من بين حوالي 600 قرية وبلدة ومدينة احتلّتها دولة كان اسمها إسرائيل ودمّرتها وهجّرت أهلها، ومنعت عودتهم على مدى سبعة قرون تقريبًا. تلك الحقبة من التّاريخ كانت تسمّى نكبة فلسطين.'
رنّ جرس المنبّه وأفقت من حلمي لأرى أن شيئًا لم يتغيّر بعد، وأنّ النّكبة مستمرّة.