مفهوم "المُجاوَرَة" في التعليم الذي ينسجم مع التعدّديّة والحكمة والعافية، مثّلته لجان الأحياء والجوامع في الانتفاضة الأولى، والتي تعاملت معها إسرائيل بقوّة مُجحفة، بينما كانت لا تقمع المؤتمرات التي طالبنا فيها بعدم إغلاق مؤسّسات التعليم.
لا شكّ في أنّ اختراع 'السيفون' اختراع غربيّ ذكيّ، لكنّه آلة تفتقد إلى الحكمة، فهو يتخلّص من الفضلات ومن ثمّ يلوّث بها التربة والطبيعة؛ وهكذا تتعامل 'القبيلة الأوروبيّة' مع العلم عبر عملها على تطوير الآلات، لا تطوير حياة!
في زيارة للكاتب والتربويّ منير فاشة إلى مدينة جنين لتوقيع كتابه 'حكايتي مع الرياضيّات،' يوم 22 آب (أغسطس)، أجرت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة حوارًا معه، حول كتابه وأهمّ مفاهيمه التربويّة، وقصّة استعادة وعيه وتعافيه من وهم المدنيّة، وأيضًا حول تأسيسه للملتقى التربويّ العربيّ ومؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ.
فُسْحَة: في رحلة البحث عن الهويّة، يكوِّن الإنسان إطارًا تعريفيًّا خاصًّا به، أنت كما صرّحت سابقًا، ترفض نعتك بالدكتور أو الأستاذ منير، كيف تفضّل التعريف بنفسك؟
منير فاشة: أكره كلمة دكتور أو أستاذ، وأودّ أن يعيد المفتخرون بهذه الكلمة علاقتهم مع كلماتهم وإدراك ما تعنيه؛ فالكلمات بغير معنًى أصيل قائم على الخبرة والتجربة الشخصيّة جاهزة دومًا للقولبة، فاتحة المجال للسيطرة والاحتلال، كما تسيطر ألقاب المتعلّمين على مفهومهم لذواتهم؛ وللأسف، كنت جزءًا منهم عندما علّمت الرياضيّات والفيزياء في جامعة بيرزيت في السبعينات.
يستهويني تعريفي معلّمًا فقط، بتعريف الجاحظ في كتابه 'البيان والتبيّين'، فهو يعرّف دور المعلّم بأنّه يبين بيانًا جميلًا وفصيحًا ما في داخله، ويشجّع الآخرين على ما ينضج في دواخلهم من مفاهيم ومعانٍ.
فُسْحَة: التربويّ والمدرّس المتعافي، هذا ما استهللت به كتاب 'حكايتي مع الرياضيّات'، ما هي الحكاية، وما المرض الذي تعافيت منه؟
فاشة: هي حكايتي مع التعليم بوجه عامّ، إذ تتقاطع جميع تفاصيلها في نقطة ادّعاء الغرب، لا سيّما القبيلة الأوروبيّة، تمثيل الحداثة والمدنيّة والعالميّة، ويسقطونه إحلالًا داخل المجتمعات المستعمَرة والتي يصفونها بـ 'القديم البالي،' فالرياضيّات التي جاءت من لندن عالميّة، لكن من خلال عملي مع معلّمي وطلبة الرياضيّات ما بين الأعوام 1973 و1976، علّمتُ أنّ والدتي الأمّيّة تمارس الرياضيّات بطريقة فاقت ما تعلّمتُه في جامعتي مانشستر وهارفارد، وهذا الإدراك مثّل مرحلة التعافي لديّ؛ فالهندسة التي استخدمتها أمّي في تفصيل ثياب الزبائن، فيها من الخبرة ما يمثّل جوهر الرياضيّات.
التعليم في هارفارد مبنيّ على السلطة والغَلَبَة، قيمة المرء تمثّل رقمًا أو مرتبة، على الرغم من كون الأرقام أداة فهم وطريق للعيش. أنا لا أنكر أنّ أوروبا تبتكر وتخترع، لكن ما ننتجه نحن خالٍ من الحكمة، والتعافي المقصود هو عدم الافتخار بكوني مُسْتَعْبَدًا من القبيلة الأوروبيّة، وكذلك مُسْتَعْبِدًا لغيري.
فُسْحَة: ما نقطة التحوّل التي نقلتك من التعليم الذي يحمل 'كلمات بلاستيكيّة'[1] إلى 'التعليم الحكيم'، كما تصفهما في كتابك؟
فاشة: بعد هزيمة حزيران عام 1967، لم يستطع أيّ عالم أو مثقّف قراءة المرحلة، وجدوا أنفسهم لا يفقهون ما يحدث حولهم، فتساءلت؛ ما هذه المعارف التي تُخْرِجُ الإنسان من سياقه، وخارج نصّه، ولا تساعده في تفسير المتغيّرات حوله؟ فبدأ التحوّل.
كما تعزّز التحوّل أيضًا بعد الانتفاضة الأولى، أثناء عملي التطوّعيّ في مخيّم شعفاط بالقدس، حيث لاحظت أنّ السكّان الذين زادوا في سنوات قليلة من 8000 نسمة إلى 25000 نسمة، وفي ظلّ الاكتظاظ والسياسات الاحتلاليّة، وبخاصّة الأمّهات اللواتي يعشن بأعجوبة، أشبه بأسطورة باندورا اليونانيّة، باندورا[2] التي تخرج من الصندوق يوميًّا شرور البشريّة وتُبقي الأمل.
فُسْحَة: ماذا عن كونك فلسطينيًّا، كيف يحضر المكان والبيئة في صياغة الأفكار والنصّ؟
فاشة: ما دعوتُ إليه من خلال هذا الكتاب وكتبي الأربعة الأخرى، يمكن أن يُطلق عليه مصطلح 'العودة'، المرتبط جليًّا بحلم كلّ فلسطينيّ بالعودة إلى مسقط رأسه، وحلم أمّي بالعودة إلى بيتنا في القدس. مثّل هذا المفهوم في مسيرة الرياضيّات الخاصّة بي عودة إلى الذات والمجتمع والثقافة التي غذّتني بها أمّي؛ الرياضيّات التي تنبع من الزراعة والفنّ والموسيقى. ربّما يحدث لي الشيء نفسه، أموت من غير العودة كلّيًّا لامتداد الرياضيّات في الطبيعة، وهذه النظرة بالتأكيد نضجت نتيجة مجاورتي لفلسطين.
المقصود بالعودة فهم العلاقة التي تربط الإنسان بمعناه الوجوديّ، فمثلًا المعلّم يبحث في العلم أكثر من بحثه في علاقته مع هذا العلم، فالمدرّس يستطيع أن يشرح 'فيثاغورس' والنظام 'الأُسّيّ' مثلًا، لكنّه لا يشرح للطالب علاقته بهذه النظريّات، ولا يقدّم مساحة للطالب كي يكتشفها ويعيد النظر فيها ويجتهد في تكوين معناها.
فُسْحَة: 'المُثَنّى' و'المُجاوَرَة،' مفهومان ذكرتهما مرارًا في كتابك للحديث عن بدائل أو حلول لأوهام الغرب التي أخرجت الفعل من السياق في العمليّة التعليميّة؛ اشرح لنا كيف تساهم تلك المفردات في تغيير النظام التعليميّ في السياق الفلسطينيّ؟
فاشة: بات من الضروريّ انتزاع أنسفنا من وسيط أحاديّ بادّعاء أنّه الأفضل والوحيد، كالمنهاج الرسميّ مثلًا الذي يُدَرّس داخل أقفاص كما وصفها الفيلسوف الهنديّ طاغور، والتوجّه إلى مصطلح عربيّ يسمّى 'المُثَنّى،' وهو علاقة تعايش وتطوّر بين شخصين. ليست كالعلاقة التي تحدّث عنها هيجل أو ديكارت 'أنا أفكّر، إذن أنا موجود،' إذ في منطق 'المُثَنّى' 'أنتَ موجود، إذن أنا موجود.' المنطق الهيجليّ يتعامل مع الآخر باعتباره 'هو' منفصلًا عن 'الأنا،' إلّا أنّ علاقة 'المُثَنّى' المقصودة هي بين شخصين، وتصبح مع الوقت مهمّة للشَخصين.
مفهوم 'المُجاوَرَة' في التعليم الذي ينسجم مع التعدّديّة والحكمة والعافية، مثّلته لجان الأحياء والجوامع في الانتفاضة الأولى، والتي تعاملت معها إسرائيل بقوّة مُجحفة، بينما كانت لا تقمع المؤتمرات التي طالبنا فيها بعدم إغلاق المؤسّسات التعليميّة؛ فالتعليم المجتمعيّ أكثر خطورة من المؤتمرات الدوليّة!
فُسْحَة: من اللافت أنّ ابنك ترك المدرسة في سنّ التاسعة؛ كيف تراه خارج منظومة التعليم المؤسّساتيّ؟
فاشة: جاء ولدي إليّ يومًا وقال لي: 'لا أحبّ المدرسة،' فنصحته بتركها، فتَرَكَها، وفعلًا لا زلت أستغرب من فهمه وإِدراكه لما حوله؛ فهو مزارع جيّد، يمارس جوهر الرياضيّات مثل أمّي، الرياضيّات الناتجة عن التأمّل والتجربة والخبرة.
فُسْحَة: أنشأت 'الملتقى التربويّ العربيّ' في 'مركز دراسات الشرق الأوسط' في جامعة 'هارفرد' عام 1997، وأنشأت 'مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ؛' فهل وجد منير فاشة نفسه في إنجازاته تلك، وهو من يقتبس كثيرًا قول ابن عربي: 'أنت من تبحث عنه'؟
فاشة: خلال عملي في 'هارفارد'، تعمّقت قناعاتي بأنّنا نشكّل، نحن الأكاديميّين، قوّة من العناد والتفاخر؛ قوّة تنظر بصورة خطيّة وأحاديّة نحو تحديث العالم. والأسوأ من هذا صناعة مستويات للذكاء وأدوات لقياسه، فأُنْتِجَتْ بذلك دراسات سخيفة عن السود وانخفاض نسبة ذكائهم مثلًا. هذا المعيار العالميّ لقياس الذكاء خضعتُ له في دراستي، ويوميًّا يخضع له الطالب تحت نعوتات فاشل أو ناجح. أوّل من لاحظ وعارض تلك التصنيفات هو خليل السكاكيني، الذي أنشأ 'دار الحكمة،' رافعًا شعارًا مفاده: لا لإهانة الطالب، لاغيًا مفهوم ترتيب الطلّاب والجزاء والعقاب.
هذا ما حاولت تطبيقه في 'الملتقى التربويّ العربيّ،' واستكملته في 'مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ،' وللأسف حاولت في التسعينات تشكيل لجنة العشرة لتُمثّل دار الحكمة للطالب الفلسطينيّ، لكنّها قوبلت بالرفض.
فُسْحَة: تبلغ من العمر الآن 75عامًا، لا تتناول أيّ نوع من الأدوية، عافيتك المعرفيّة يبدو أنّها انعكست على عافيتك الصحّيّة؛ من الذي أدّى إلى وجود الآخر؟
فاشة: الطعام الذي نتناوله هو في الحقيقة وهم، طعام لكنّه غير مغذّ، يجعلنا مستمرّين في الحياة بأعجوبة من الله، فكون الغذاء خاضع لأرقام وحسابات ربح وخسارة، سيفرغ من مضمون التعافي والصحّة. زراعة القمح في الأردنّ مثلًا، وقريبًا في فلسطين، ستكون كارثة، بسبب وجود شركات عالميّة تغيّر في تركيبة بذرة القمح، هذا القمح الخالي من الحكمة، نتاج النظرة الرأسماليّة الربحيّة المركّبة للمنتوج.
إدراكي للعافية المعرفيّة سببه اقترابي أكثر من هذا الوهم. قد نسمع عن مطعم وجباته غير نظيفة، فنذهب إلى المطبخ لنلاحظ الأوساخ، وهذا سبب ذهابي إلى 'هارفارد،' وما وجدته في ذلك المطبخ أثبت ما أدركته حقًّا.
فُسْحَة: تؤمن بمقولة 'قيمة المرء ما يُحْسِنُهُ،' فكيف تتجلّى في سياق بعيد عن التصنيفات الرقميّة؟
فاشة: كلمة 'يُحْسِن' تتضمّن أعظم المعاني؛ الإتقان والجمال والعطاء والنفع والاحترام، وهي قيم رائعة أساسًا لقيمة الفرد، لا تقييم من قبل أشخاص مُرَخّصين يدّعون العالميّة. أمّي تجسّد المعاني الخمس للإحسان؛ تخيط الملابس للنساء بإتقان بحيث يتناسق مع جسم كلّ واحدة منهنّ، وما تفعله كان جميلًا ونافعًا ويتضمّن عطاءً واحترامًا.
ربّما صاغ الإمام عليّ العبارة بعد تنقّلاته ومشاهداته للعديد من التجمّعات والثقافات، فارتبطت العبارة بسياق وعلاقات وأفعال لا بأرقام، لذلك وجب علينا التعامل مع المرء بقيمته التعدّديّة وليس على شكل خطّ عموديّ يجرّده من معناه.
[1]. الكلمات البلاستيكيّة: مصطلح استخدمه عالم اللغويّات، Uwe Poerksen، في كتابه: Plastic Words: The Tyranny of a Modular Language'.'
[2]. باندورا اليونانيّة: تقول الأسطورة إنّ الإله زيوس خلق المرأة الأولى، وهي أوّل امرأة يونانيّة وُجِدَت على الأرض وفق اليونان، وأسماها باندورا Πανδώρα))، وقد خُلِقَت من الماء والتراب وأُعطيت الكثير من المميّزات؛ كالجمال والقدرة على الإقناع وعزف الموسيقى. ثمّ أعطاها صندوقًا أو جرّة مغلقة تضمّ كل الشرور، وقال لها ألّا تفتحها أبدًا حتّى لا تتسبّب في انتشار الشرور في الأرض؛ لكنّ الفضول دفع باندورا إلى فتح الصندوق لمعرفة محتوياته، فخرجت كلّ الشرور منه، فحاولت إغلاقه من جديد، لكنّ الأوان كان قد فات، ما سبب انتشار الشرّ في الأرض.