هذه القصة القصيرة للكاتب الشهيد غسان كنفاني من مجموعة “أرض البرتقال الحزين”، ونعيد نشرها بمرور عام على الحرب الأخيرة على غزة وبالتزامن مع الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاد الكاتب، الثامن من تموز/يوليو.
وقالت آني كنفاني، زوجة غسان، في مقابلة صحافية العام الماضي إن للقصة علاقة بأخيه غازي، عندما انتقل إلى سكرمنتو.
عزيزي:
استلمت رسالتك الآن، وفيها تخبرني أنك أتممتَ لي كل ما أحتاج إليه ليدعم إقامتي معك في ساكرمنتو، وكذلك وصلني ما يشعر أنني قبلت في فرع الهندسة المدنية في جامعة كاليفورنيا. لا بد لي يا صديقي من شكرك على كل شيء، لكن سيبدو لك غريبا بعض الشيء، أن أزف إليك هذا النبأ، وثق تماما يا مصطفى أنني لا أشعر بالتردد قط، بل أكاد أجزم أنني لم أر الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة، لا يا صديقي: لقد غيرت رأيي، فأنا لن أتبعك 'إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن' كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبدا.
إنه لشيء يزعجني حقيقة، يا مصطفى، أن لا نكمل ذلك الجريان لحياتينا في خط واحد، فإني أكاد أسمعك تذكرني بعهدنا على الاستمرار معا، وكيف كنا نهتف: “سنصير أغنياء”، ولكن يا صديقي ليس في يدي حيلة، نعم، إنني لا زلت أذكر تماماَ يوم وقفتُ في ساحة المطار في القاهرة، أشد على يدك وأحدق في المحرك المجنون، كان كل شيء ساعتئذ يدور مع المحرك ذلك الدوران الصاخب، وكنتَ أنت تقف أمامي، بوجهك المليء الصامت، لم يتغير وجهك عن الوجه الذي نشأت به في حي 'الشجاعية' في غزة، لولا هذه الغضون المسطحة، قد نشأنا معا، وكان واحدنا يفهم الآخر تمام الفهم، وتعاهدنا على الاستمرار معا الى النهاية… ولكن:
ـــ 'بقي ربع ساعة وستقلع الطائرة، لا تحدق هكذا باللاشيء، اسمعني، ستذهب في العام القادم إلى الكويت، وستوفر من راتبك ما يقتلعك من غزة إلى كاليفورنيا، لقد بدأنا معا، ويجب أن نستمر…”.
و كنتُ لحظتذاك أرقب شفتيك وهما تتحركان بسرعة، هكذا كانت طريقتك في الكلام: لا فواصل ولا نقاط، لكنني كنت أحس إحساسا غامضا أنك غير راض تماما عن هروبك، لم تكن تستطيع أن تعد ثلاثة أسباب وجيهة لهذا الهروب، وكنت أعاني أنا أيضا من هذا التمزق، ولكن الشعور الأوضح كان: لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب.. لماذا؟ إلا أن وضعك كان قد أخذ يتحسن: فلقد تعاقدتْ معك معارف الكويت دون أن تتعاقد معي، وفي غمرة من البؤس الذي كنت أعيش فيه، كانت تصلني منك في بعض الأحيان مبالغ صغيرة، كنت تريدني أن أعتبرها دينا، خوف أن أشعر بالصغار، بقد كنتَ تعرف ظروفي العائلية تماما، وكنت تعرف أن راتبي الضئيل في مدارس وكالة الغوث الدولية لم يكن يكفي لإعالة أمي، وزوجة أخي الأرملة وأولادها الأربعة.
ــ 'اسمعني جيدا، أكتب لي كل يوم… كل ساعة… كل دقيقة، لقد أوشكت الطائرة أن تطير، استودعك الله، بل قل إلى اللقاء…إلى اللقاء'.
ومست شفاهك الباردة وجنتي، وأدرت عني وجهك ميمماً شطر الطائرة، وعندما التفت إلي مرة ثانية كنت أرى دموعك…
وبعدها تعاقدت معي معارف الكويت، لا داعي لأن أكرر عليك كيف كانت تجري تفاصيل حياتي هناك، فلقد كنت أكتب لك دائما عن كل شيء، كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممزوج مع الزمن، كل شيء كان لزجا حارا، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق إلى آخر الشهر!
وفي منتصف العام، ذلك العام، ضرب اليهود مركز الصبحة، وقذفوا غزة، غزتنا، بالقنابل واللهب، كان يمكن أن يغير لي هذا الحدث شيئاً من الروتين، لكنه لم يكن لي ما آبه له كثيرا: فأنا سأخلف هذه الغزة ورائي، وسأمضي إلى كاليفورنيا أعيش لذاتي التي تعذبت طويلا. إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في البلد المقتول يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم، لقد كنت أرسل لأمي، ولأرملة أخي وأولادها، مبالغ ضئيلة تعينهم على الحياة، لكنني – أيضا- سأتحرر من هذا الخيط الأخير. هناك، في كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات… إن الشفقة التي تربطني بأولاد أخي وأمهم وأمي، لا تكفي أبدا لتبرير جريان مأساتي هذا الجريان الشاقولي… لا يمكن أن تشدني إلى تحت أكثر مما شدتني… يجب أن أهرب!
أنت تعرف يا مصطفى هذه الأحاسيس، لأنك عشتها فعلا: ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟ لماذا لا نشرح الأمر تشريحا يعطيه معنى واضحا؟ لماذا لا نترك هذه الهزيمة بجراحها، ونمضي إلى حياة أكثر ألوانا وأعمق سلوى... لماذا؟ لم نكن ندري بالضبط!
وعندما أخذت إجازتي في حزيران، وجمعت كل ما أملك توقا إلى الانطلاقة الحلوة، إلى هذه الأشياء الصغيرة التي تعطي الحياة معنى لطيفا ملونا، وجدت غزة كما تعهدها تماما: انغلاقا كأنه غلاف داخلي، لتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطيء الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه، أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة… هذه غزة، لكن ما هي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعا ضالا من الوعول؟ لا أعرف! وكل الذي أعرف أنني ذهبت لأمي في دارنا ذلك الصباح، وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي، وطلبت مني وهي تبكي، أن ألبي رغبة نادية ابنتها الجريحة، في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء. أنت تعرف نادية ابنة أخي الجميلة ذات الأعوام الثلاثة عشر؟
في ذلك المساء اشتريت رطلا من التفاح، ويممت شطر المستشفى أزور نادية… كنت أعرف أن في الأمر شيئا أخفته عني أمي وزوجة أخي، شيئا لم تستطيعا أن تقولاه بألسنتهما… شيئا عجيبا لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة! لقد اعتدت أن أحب نادية، اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد إلى حد حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعي.
ماذا حدث في تلك الساعة؟ لا أدري!
لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جم، إن الطفل المريض يكتسب شيئا من القداسة، فكيف إذا كان الطفل مريضا إثر جراح قاسية مؤلمة؟
كانت نادية مستلقية على فراشها، وظهرها معتمد على مسند أبيض انتثر عليه شعرها، كفروة ثمينة، كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة هي أبدا في قاع بؤبئها الأسود البعيد، وجهها كان هادئا ساكنا، لكنه موح كوجه نبي معذب.
لا زالت نادية طفلة… لكنها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة ، أكبر بكثير…
ــ نادية…
لا أدري، هل أنا الذي قلتها، أم إنسان آخر خلفي؟ لكنها رفعت عينيها نحوي ، وشعرت بهما تذيباني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن، ومع بسمتها الخفيفة سمعت صوتها:
ــ عمي…. وصلت من الكويت؟
تكسر صوتها في حنجرتها، ورفعت نفسها متكئة على كفيها، ومدت عنقها نحوي، فربت على ظهرها، وجلست قربها:
ــ نادية، لقد أحضرت لك هدايا من الكويت، هدايا كثيرة سأنتظرك إلى حين تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين داري فأسلمك إياها، ولقد اشتريت لك البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبينه مني… نعم… لقد اشتريته…
كانت كذبة ولدها الموقف المتوتر… وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة لأول مرة، أما نادية فقد ارتعشت كمن مسه تيار صاعق، وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، وأحسست بدمعها يبلل ظاهر كفي:
ــ قولي يا نادية… ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها، وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:
ــ يا عمي!
ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض ، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ...
يا صديقي…
أبداً لن أنسى ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، لا، ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى الأبد… لقد خرجت يومها من المستشفى إلى شوارع غزة، وأنا أشد باحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما لنادية، كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم … كانت غزة، يا مصطفى، جديدة كل الجدة، أبداً لم نرها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركومة على أول حي الشجاعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتتشرحه فقط، غزة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئا جديدا، كانت تلوح لي أنها… بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط، كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائدا إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل طويل يصل إلى صفد، كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزنا على ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، حزنا لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل أكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة!
لقد خرجت إلى شوارع غزة، شوارع يملؤها ضوء الشمس، لقد قالوا لي أن نادية فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق اخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وقد أنشبا أظفارهما في الدار، كانت نادية تستطيع أن تنجو بنفسها، أن تهرب… أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل…
لماذا؟
لا يا صديقي! لن آتي لسكرمنتو، وأنا لست آسفا البتة، لا ولن أكمل ما بدأناه معا منذ طفولتنا: هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزة… هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقا في أعماقك… يجب أن يتضاخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك… هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة…
لن آتي إليك..بل عد أنت لنا… عد… لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة… وما قيمة الوجود…
عد يا صديقي… فكلنا ننتظرك…
التعليقات