أدب الفتيان الديستوبيّ... إدراك الخير في وجه المستقبل القاتم

من مسلسل «مباريات الجوع» (2012-2023)

 

في الأعوام الأخيرة، أصبح أدب الديستوبيا بجذوره الراسخة في التنبّؤات المستقبليّة، قوّة ثقافيّة عاتية تسلّط الضوء على مخاوف المجتمع الجماعيّة، وشكوكه في شأن المستقبل. مع غياب نجم هذا النوع الأدبيّ على رفوف أدب البالغين في الأعوام الأخيرة، نجده قد لاقى صدًى متجدّدًا بين الجماهير الأصغر سنًّا، في أدب الفتيان. في العقدين الأخيرين، نجد العديد من روايات أدب الفتيان يتعمّق في التفاعل المقلق بين السلطة والعنف والمشهد المتطوّر للتكنولوجيا أداةَ سيطرة. لكن مع هذا، لا بدّ من ملاحظة فرق مبدئيّ بين الأدب الديستوبيّ الموجّه إلى البالغين والموجّه إلى الفتيان – وهو الأمل.

يعرض الأدب الديستوبيّ للبالغين صورة سوداويّة بائسة للواقع المتخيّل، وفي معظم الحالات ينتهي إلى ذات التصوّر البائس. لكنّ تغيير الجمهور المُسْتَهْدَفْ أدّى إلى تغيير النهايات، وتحويل هول الديستوبيا إلى إمكانيّة كامنة، من خلال إعادة بلورة الواقع وإمكانيّة تغييره عبر الأمل.

تكتسب هذه القراءة للأدب الديستوبيّ تأثيرًا إضافيًّا في ضوء الحرب الإسرائيليّة المستمرّة على قطاع غزّة؛ ممّا يسلّط الضوء على أهمّيّة التأمّلات الديستوبيّة في مواجهة الصراعات والحروب المعاصرة، وإمكانيّة بلورة الأمل من تحت الركام. ومع ذلك، قبل الخوض في هذه التفاصيل، لا بدّ من تقديم مناقشة شاملة للسياق السياسيّ والثقافيّ الّذي تطوّر فيه أدب الديستوبيا خلال القرن الماضي.

 

الأدب الديستوبيّ والحرب العالميّة الثانية

الأدب الديستوبيّ أو أدب المدينة الفاسدة (عوضًا عن أدب المدينة الفاضلة، اليوتوبيا) أدب يصف العالم بأبشع صوره، تحت وطأة السلطة. الديستوبيا نوع أدبيّ يستكشف المجتمعات الّتي تتميّز بظروف قمعيّة، وغالبًا ما يصوّر مستقبلًا قاتمًا أو واقعًا بديلًا، حيث يواجه الأفراد تحدّيات مثل سيطرة الحكومة والمراقبة والفوضى المجتمعيّة. تعمل هذه الأعمال بمنزلة روايات تحذيريّة، تعكس العواقب المحتملة للسلطة غير المقيّدة، وإسقاطاتها على المجتمع، وتأثير التقدّم التكنولوجيّ على الوجود البشريّ.

نجد أسس الأدب الديستوبيّ في كلاسيكيّات القرن العشرين، مثل رواية «عالم جديد شجاع» لألدوس هاكسلي (1932)[1]، ورواية «1984» لجورج أورويل (1949)[2]، ورواية «فهرنهايت 451» لراي برادبري (1953)[3]. وكما يمكن الملاحظة، فأبرز عناوين هذا الأدب كانت قد صدرت في سنوات الحرب العالميّة الثانية، وفي العقد الّذي تلاها.

يمكن لانتشار أدب الديستوبيا أن يُعْزَى، في الأعوام المحيطة بالحرب العالميّة الثانية، إلى المناخ الاجتماعيّ والسياسيّ والتحوّلات العميقة في الوعي العالميّ خلال تلك الفترة المضطربة.

من بين أسباب ازدهارها، أنّه كان لصعود الأنظمة الشموليّة والفظائع الّتي شهدتها الحرب العالميّة الثانية، تأثير عميق في النفس الجماعيّة. تأثّر المثقّفون كثيرًا بالحرب وبالأنظمة الاستبداديّة في عصرهم، وكان لفظائع ألمانيا النازيّة وروسيا الستالينيّة دور مفصليّ في بلورة الأدب الديستوبيّ. دفعت الفظائع المرتكبة في ظلّ هذه الأنظمة إلى إجراء فحص نقديّ للسلطة الحكوميّة غير الخاضعة للرقابة وإسقاطاتها الواردة على الواقع.

الديستوبيا هي نوع أدبيّ يستكشف المجتمعات الّتي تتميّز بظروف قمعيّة، وغالبًا ما يصوّر مستقبلًا قاتمًا أو واقعًا بديلًا، حيث يواجه الأفراد تحدّيات مثل سيطرة الحكومة والمراقبة والفوضى المجتمعيّة...

إضافة إلى ذلك، شهدت فترة الحرب العالميّة الثانية تقدّمًا كبيرًا في مجال التكنولوجيا، بما في ذلك تطوير الأسلحة النوويّة واستخدامها. كانت، وما زالت، احتماليّة حدوث عواقب كارثيّة بسبب التقدّم التكنولوجيّ موضوعًا سائدًا في الأدب الديستوبيّ. على سبيل المثال، يستكشف كتاب «عالم جديد وشجاع» مجتمعًا مستقبليًّا تؤدّي فيه التطوّرات التكنولوجيّة والعلميّة إلى تجريد الأفراد من إنسانيّتهم. من ناحية المناخ الاجتماعيّ، شهدت أعوام ما بعد الحرب تغيّرات اجتماعيّة وثقافيّة كبيرة، حيث أمست النزعة الاستهلاكيّة الّتي ظهرت في الخمسينات من القرن الماضي، ثيمة مركزيّة في الأدب الديستوبيّ.

ظاهرة اجتماعيّة أخرى كان لها بصمة مركزيّة في هذا الأدب، تكمن في انتشار المكارثيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وملاحقة الأصوات المعارضة أجمع وقمعها. كلتا الظاهرتين أدّتا إلى خلق جوّ من التطابقيّة السلوكيّة أو الامتثال (Conformity)، فكلّ مَنْ يحيد عن السلوك المتّفق عليه مجتمعيًّا، يصبح متّهمًا بالعمالة والغرابة. رواية «فهرنهايت 451»، مثلًا، تصف مجتمعًا تُحْظَر فيه الكتب، ويكون قمع الفكر فيه؛ ممّا يعكس المخاوف بشأن الرقابة والامتثال. لهذا السبب دفعت أهوال الحرب إلى التأمّل في الجوانب المظلمة للطبيعة البشريّة، وغالبًا ما يتعمّق الأدب الديستوبيّ في قدرة الإنسان على القمع والقسوة وإمكانيّة تجريده من الإنسانيّة خلال الصراع مع مجموعات أخرى. باختصار، يمكن اعتبار ازدهار أدب الديستوبيا أثناء الحرب العالميّة الثانية وبعدها، بمنزلة استجابة للتغيّرات الجيوسياسيّة والتكنولوجيّة والاجتماعيّة العميقة في ذلك الوقت.

 

 

من المهمّ أن نذكر أنّ جذور هذا الأدب من ناحية تاريخيّة، يمكن أن تظهر في أدب شبيه كُتِبَ في القرن السابع عشر، إثر الحرب الأهليّة الإنجليزيّة (1642-1651)، مثل كتاب توماس هوبز «اللفياثان»[4]، الّذي على الرغم من أنّه ليس روائيًّا، إلّا أنّ هوبز يقوم فيه بتجربة ذهنيّة، سوف تتحوّل إلى نوع أدبيّ في حدّ ذاتها، وهي فكرة العقد الاجتماعيّ، أو محاولة تخيّل المجتمع ما قبل الدولة، أو ما قبل النظام. عند هوبز، حالة الطبيعة البشريّة أو الفطرة، ترادف حالة الفوضى الشاملة، حرب الكلّ ضدّ الكلّ. إذ يدّعي أنّه من غير النظام المتمثّل بالسلطة الشموليّة، ليس هناك ضمان بألّا يهمّ رجل بقتل الآخر للاستحواذ على ملكيّته، ولذلك لا بدّ من وجود كيان أمنيّ بين أفراد المجتمع دائمًا. طبعًا تلا هوبز مفكّرون عديدون اقترحوا سيناريوهات بديلة لحالة الطبيعة، مثل جون لوك[5] وجان جاك روسو[6] وغيرهما. إلّا أنّ أدب الديستوبيا لا ينظر إلى الوراء، إنّما إلى الأمام. ماذا سيحصل في المستقبل، إذا سمحنا للسلطة بمواصلة تقييداتها وسيطرتها على البشريّة وعلى الفرد؟ ماذا سيحصل لو دفعنا التكنولوجيا إلى أبعد حدودها؟

 

تجلّيات أدب الحرب العالميّة الثانية

بعد نحو 70 عامًا من الحرب العالميّة الثانية، يمكننا التحليل المعاصر والنقديّ للأدب الديستوبيّ، وفحص إن كانت قد تحقّقت التنبّؤات الّتي ظهرت كتحذيرات في تلك الكتب. مثلًا، تصوّر رواية أورويل «1984» الّتي نُشِرت في عام 1949، نظامًا شموليًّا تنهار فيه الفرديّة تحت وطأة المراقبة والسيطرة على الفكرة المنتشرة في كلّ مكان. في الرواية، تراقب السلطة المجتمع بواسطة تلفزيونات وكاميرات مزروعة في كلّ حيّز، حتّى في البيوت. وهناك مؤسّسات مثل «وزارة الحقيقة» المسؤولة بشكل حصريّ عن البروباغندا، ومراجعة أو إعادة صياغة التاريخ. هكذا، يصبح تغيير الحقائق التاريخيّة واجبًا قوميًّا يقوم فيه بطل الرواية، والحقيقة تصبح أداة تسويق في يد الحزب الحاكم.

إنّ أوجه التشابه المرعبة بين رؤية أورويل الكابوسيّة والمخاوف المعاصرة بشأن خصوصيّة البيانات، والتجاوز الحكوميّ، وسوء الاستخدام المحتمل للتكنولوجيا، حتّى مفهوم الدعاية الإعلاميّة والأخبار الفاسدة، تؤكّد الأهمّيّة الدائمة للأدب الديستوبيّ في تشكيل فهمنا للتهديدات المتطوّرة للحرّيّة الشخصيّة.

إنّ أوجه التشابه المرعبة بين رؤية أورويل الكابوسيّة والمخاوف المعاصرة بشأن خصوصيّة البيانات، والتجاوز الحكوميّ (...) تؤكّد الأهمّيّة الدائمة للأدب الديستوبيّ في تشكيل فهمنا للتهديدات المتطوّرة للحرّيّة الشخصيّة....

مثال آخر يظهر بوضوح في كتاب راي برادبوري «فهرنهايت 451»، الّذي نُشِرَ في عام 1953، تحوّل التركيز إلى قمع الحرّيّة الفكريّة من خلال الرقابة. ترسم رواية برادبوري عالمًا ديستوبيًّا بائسًا حيث كان فيه حظر الكتب، وتصبح عمليّة القراءة عملًا من أعمال التمرّد. في الرواية يعمل البطل كرجل نار؛ إذ تتحوّل وظيفة الإطفائيّ في ذلك الواقع الروائيّ إلى وظيفة إضرام النار في الكتب كونها تمثّل المعرفة القديمة المحظورة.

إنّ أوجه التشابه بين حكاية برادبوري التحذيريّة وعصرنا الحديث، الّذي يتميّز بالمناقشات حول حرّيّة التعبير، والسيطرة على المعلومات، وعواقب مجتمع غير مطّلع على الحقيقة، تسلّط الضوء كذلك على بصيرة هذا النوع الأدبيّ في توقّع التحدّيات المجتمعيّة.

قصّة شبيهة جدًّا، تعرض صورة معاصرة لهذه الروايتين، نجدها في «حارس سطح العالم»[7] لبثينة العيسى، الصادرة في عام 2019. في عالم العيسى، تقرّر الحكومة، بعد أن سقطت الديمقراطيّة، ومُنِعَ الإنترنت والتكنولوجيا، أنّه بما أنّ الكثير من الدماء قد أُريق بسبب الحرّيّات والأحلام الناتجة عن الخيال، الّتي تغذّيها قراءة الكتب، تتولّى الحكومة مهمّة إزالة الأحلام والأوهام والعواطف من المجتمع؛ بهدف الحفاظ على حالة من الواقعيّة الإيجابيّة من خلال إزالة الإمكانيّات والرغبات اللاعقلانيّة. بطل العيسى، كما أبطال أورويل وبرادبوري، كذلك يبدأ الكتاب كمَنْ يعمل رقيب كتب.

 

الأدب الديستوبيّ للفتيان

من خلال توسيع عدسة استكشاف الديستوبيا إلى ما هو أبعد من الكلاسيكيّات، نجد أنّها في العقد الأخير، قد تحوّلت إلى جمهور مختلف، وهو الفتيان. ثلاثيّة «مباريات الجوع» (The Hunger Games)[8] لسوزان كولينز، هي بلا شكّ الأبرز في هذا السياق؛ لهذا سوف أتطرّق إليها أكثر، ولكن طبعًا يمكننا ذكر سلسلة «الجامحة» (Divergent)[9] كذلك، و«المانح» (The Giver)[10]، وغيرهما الكثير من السلاسل الأدبيّة.

تدور أحداث «مباريات الجوع» في دولة بانيم الّتي تديرها حكومة الكابيتول، على أنقاض ما تبقّى من شمال أمريكا بعد كوارث طبيعيّة هدّدت الحياة فيها. تمارس حكومة الكابيتول السيطرة الاستبداديّة على اثني عشر مقاطعة حولها، وتنشر في كلّ مقاطعة حرسًا يُسَمَّون «حرس السلام» (PeaceKeepers). يؤكّد الكابيتول سيطرته وسلطته على المقاطعات من خلال مهرجان سنويّ، يُسَمّى مباريات الجوع، يكون فيه اختيار فتًى وفتاة من كلّ مقاطعة، بين 12-18 سنة؛ ليتبارزوا حتّى الموت ضمن برنامج واقع تلفزيونيّ (Reality Show).

هذه الآليّة تذكّرنا بآليّات كانت تقوم بها الإمبراطوريّة الرومانيّة بهدف ترفيه الجماهير، حين ترسل مجالدين، أو مصارعين إلى حلبة للقتال حتّى الموت. إلّا أنّ مباريات الجوع تركّز على استهداف الأطفال، كرمزيّة للجيل القادم – بمحاولة من الكابيتول لشلّ آمال الأجيال القادمة في إمكانيّة التعدّي على الحكم، ولزرع فكرة الترهيب والسيطرة التامّة للسلطة على أجساد الأطفال وإمكانيّات حياتهم، وحتّى على خياراتهم الأخلاقيّة؛ فكلّ طفل معرّض لأن يتحوّل إلى قاتل في حلبة مباريات الجوع؛ بناءً على قانون الكابيتول.

تدور أحداث «مباريات الجوع» في دولة بانيم الّتي تديرها حكومة الكابيتول، على أنقاض ما تبقّى من شمال أمريكا بعد كوارث طبيعيّة هدّدت الحياة فيها...

لكنّ «مباريات الجوع» ليس كتابًا ديستوبيًّا بالمفهوم التقليديّ للديستوبيا، بل يقترح بدائل اعتراضيّة على النظام الحاكم. في الجزء الأوّل من الكتاب، تتغلّب البطلة، كاتنيس إفردين، على الكابيتول معنويًّا من خلال التهديد بالانتحار في بثّ حيّ ومباشر أمام الكاميرات، إن لم يمكّنها من الفوز بشراكة مع زميلها، الّذي جاء معها من ذات المقاطعة. هذا التهديد، يعبّر عن رفض مبدئيّ للقتل، وتفضيل الموت على التحوّل إلى أداة ترفيهيّة وترهيبيّة بيد الكابيتول.

وكما نكتشف في الكتاب الثاني من السلسلة، «ألسنة اللهب»، فهذا الفعل البسيط جدًّا، يتحوّل إلى رمز للثورة في كلّ المقاطعات. عمليًّا ما قامت به كاتنيس بهذا العمل، هو زرع ذرّة أمل من خلال إشعال شعلة صغيرة ترمز إلى إمكانيّة الاعتراض على حكم الكابيتول – وهذه الشعلة تتحوّل إلى ألسنة لهب. 

 

تفجير مستشفى المقاطعة 8

في الكتاب الثالث في ثلاثيّة «مباريات الجوع»، «الطائر المقلّد»، تتحوّل كاتنيس إلى رمز الثورة بشكل رسميّ، وتنضمّ إلى الثوّار ضدّ حكومة الكابيتول، ويأخذ السرد أعماقًا أكثر قتامة وبؤسًا. في أحد المشاهد، تزور كاتنيس مستشفًى لتشجيع الجرحى وتقديم الأمل لهم. بعد خروجها من المستشفى، تسارع طائرات الكابيتول لمهاجمتها، وفي طريقها لملاحقة كاتنيس، تفجّر المستشفى على كلّ مَنْ فيه. هذا الحدث يثير أعصاب كاتنيس وغضبها بشدّة، فتقف أمام حطام المستشفى المشتعل، وتصوّر رسالة دعائيّة واقعيّة للثوّار لتشاركهم ما حصل في المستشفى:

"أريد أن أقول للثوّار إنّني حيّة، وإنّني هنا في قلب المقاطعة 8؛ أي حيث قصفت طائرات الكابيتول لتوّها مستشفًى مليئًا بأشخاص عُزَّل من أيّ سلاح. قصفت الطائرات الرجال، والنساء والأطفال. لم يخرج أحد حيًّا من ذلك القصف (...) أيقول الرئيس سنو إنّه يبعث إلينا برسالة؟ حسنًا، أنا أيضًا أريد أن أبعث إليه برسالة. يمكنك أن تعذّبنا وتقصفنا بطائراتك، وتحرق مقاطعاتنا وتسوّيها أرضًا. لكن، أيمكنك أن ترى هذه؟ تبعتني الكاميرات بينما كنت أشير إلى الطائرات الّتي تحترق على سطح المستودع المقابل لنا. التمع من خلال ألسنة اللهب شعار الكابيتول على جناح إحدى الطائرات. "ستنتشر النيران في كلّ مكان!". رحت أصرخ في هذا الوقت، وصمّمت على ألّا يفوته سماع كلامي، ولو كلمة واحدة، "وإذا احترقنا، فإنّكم ستحترقون معنا!"[11].

 

 

رهبة هذا المشهد المؤلم تتجلّى في الجملة التالية الّتي تُسْمَع في الكتاب، وهي: "أوقفوا التصوير". المؤلّفة كولينز، تعلم جيّدًا أنّه في الواقع ثمّة حاجة تامّة إلى توثيق كلّ الأحداث مهما كانت مؤلمة؛ ليراها العالم ويعمل شيئًا ما مع الموضوع. في «مباريات الجوع»، مَنْ يشاهد هذه الرسالة هو ليس الكابيتول فقط، بل كذلك الثوّار.

الجميع يفهم هول اللحظة الّتي فيها يكون تفجير مستشفًى مليء بالجرحى العُزَّل، لكن لكي يكون لها تأثير في مجرى الأمور سياسيًّا، على العالم أن يرى ما يحدث – وهذه مسؤوليّة الصحافة. في عالم «مباريات الجوع»، كلّ الصحافة صحافة مجنّدة من أجل أهداف سياسيّة، سواء كانت أهداف الكابيتول أو أهداف الثوّار. نقد هذه السرديّة يأتي في مرحلة متقدّمة من ذات الكتاب، في حدث تفجير آخر.

تتقدّم كاتنيس من القصر الرئاسيّ لمواجهة الرئيس سنو، فتجد في مدخل القصر مجموعة من اللاجئين المحتمين هناك، وتفهم أنّ الرئيس يستعملهم درعًا بشريًّا. عندما تقترب كاتنيس أكثر من اللاجئين تفهم أنّ جميعهم أطفال. هذا الفعل ملائم جدًّا لسياسة الكابيتول الّتي تبلورت على مرّ السنوات من خلال توظيف الأطفال في «مباريات الجوع»؛ ليقتلوا بعضهم بعضًا، ويشكّلوا سلاح الكابيتول في وجه منع أيّ ثورة أو مقاومة، ولكنّ المشهد لا ينتهي هنا.

عندما تقترب كاتنيس من الأطفال، تبدأ مظلّات مساعدات بالهبوط بالقرب من الأطفال، فيسارعون لالتقاطها متمنّين أن تحتوي على طعام أو دواء. وبعد أن حمل الأطفال هذه المظلّات، انفجر قسم منها، لكن مرّة أخرى لا ينتهي المشهد هنا. بعد الانفجار تتسارع قوى المساعدات الطبّيّة لإنقاذ الأطفال وتقديم العلاج، وهنا تزداد الكارثة عند انفجار القسم الثاني من المظلّات؛ ليُقْتَل جميع الأطفال والقوى الطبّيّة، بمَنْ فيهم أخت كاتنيس.

الأدب الديستوبيّ تحوّل في حالة «مباريات الجوع» إلى مقولة سياسيّة نقديّة حول القوّة وتوظيفها، وحول مياعة الخطوط الأخلاقيّة وسهولة الوقوع في فخّها...

في محادثة مع الرئيس سنو بعد اعتقاله، تكتشف كاتنيس أنّه لم يكن المسؤول عن تفجير الأطفال، بل إنّ هذا كان خطّة مرتّبة من قِبَل قائدة الثوّار لتلقي اللوم عليه بتفجير الأطفال، وتنتزع الشرعيّة نهائيًّا عن الطاغوت سنو: "كانت فكرة قيامي أنا بقصف أطفالنا البائسين هي الّتي سحبت منّي كلّ ولاء مهما كان ضئيلًا، أحسّ به شعبي تجاهي" (الطائر المقلّد، ص 378). وفي هذين المشهدين تكشف لنا كولينز أخيرًا خطّتها منذ البداية، بأنّ القوّة والسلطة مفسدة، وأنّه في حالات الحرب الدامية، يخاطر الأطراف بتخطّي الحدود الأخلاقيّة الّتي يدافعون عنها، ويقاومون من أجلها.

في نهاية المطاف، في «مباريات الجوع»، تحوّلت قائدة الثوّار إلى طاغوت بنفسها، وقتلت كذلك أطفالًا، ووظّفت قتلهم من أجل دعايتها السياسيّة، فكانت نهايتها كنهاية الرئيس سنو. لا شيء من هذا لا يبرِّئ الرئيس سنو، ولا حكومة الكابيتول، لكن في النهاية كلّ ما تبقّى هو الثوّار وسكّان الكابيتول؛ ليجدوا بينهم طريقة للعيش في أمان.

في الواقع، العديد من فصول «مباريات الجوع» تتقاطع مع الواقع الراهن، بدرجة تشابه مروّعة بينها وبين الوقائع الدامية للعالم المعاصر؛ خاصّة في سياق الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة.

كانت هذه المشاهد، عند صدور الكتاب، تبدو بعيدة عن الواقع، قاسية وديستوبيّة إلى درجة أكبر ممّا هو متوقّع من أدب الفتيان، لكنّها مع ذلك أصبحت أبرز سلسلة في أدب الفتيان الديستوبيّ الحديث. تعكس المواضيع المستقبليّة للسلسة أوجه تشابه مقلقة مع الأحداث الراهنة، مع التركيز على الأهمّيّة الدائمة والانعكاس المقلق للديناميكيّات المجتمعيّة الّتي ضمّتها السلسلة. إنّ المقارنة المستمرّة بين «مباريات الجوع» البائسة والظروف التراجيديّة في فلسطين، هي موضوع متكرّر يؤكّد عليه عدد من النقّاد والمعلّقين[12]. وقد حَظِيَ هذا التشبيه باهتمام كبير، خاصّة في فترات الحروب على قطاع غزّة أو إصدار أفلام من السلسلة؛ حيث تتقاطع رواية «مباريات الجوع» مع النضال الفلسطينيّ ضدّ القمع والطغيان، في ما تعكس تصرّفات الحكومة الإسرائيليّة في قطاع غزّة تكتيكات الكابيتول والسرد الديستوبيّ بشكل واضح.

لقد تحوّل الأدب الديستوبيّ، في حالة «مباريات الجوع»، إلى مقولة سياسيّة نقديّة حول القوّة وتوظيفها، وحول مياعة الخطوط الأخلاقيّة وسهولة الوقوع في فخّها. لكنّ «مباريات الجوع» ليست سلسلة تحذير فقط، إنّما سلسلة أمل. الأمل في مقاومة قوًى عاتية كقوى الكابيتول، الأمل بإمكانيّة محاربة الوحوش الأكثر طاغوتيّة مهما بدت طاقتها إلهيّة، وهذا ما تمكّنت منه كاتنيس؛ ضعضعة أشرس أنظمة شمال أمريكا سابقًا، الّذي استمرّ حكمه في السلسلة مدّة 75 سنة، بعدد «مباريات الجوع». وليس مستغربًا اختيار مخرج فيلم «مباريات الجوع» الأوّل، غاري روس، التعبير عن هذه الفكرة من خلال الاقتباس: "الأمل. إنّه الشيء الوحيد الأقوى من الخوف"، على لسان الطاغوت الرئيس سنو. على الرغم من أنّ هذا الاقتباس لا يظهر في الكتب، إلّا أنّه يبدو مناسبًا بشكل فطريّ للسلسلة، حيث يجسّد جوهر «مباريات الجوع».

 

أمّا بعد...

فبعد عشر سنوات من إصدار سلسلة «مباريات الجوع»، أصدرت سوزان كولينز بادئة (Prequel) للسلسلة تُدْعى «أنشودة الطيور المغرّدة والثعابين» (2020)، وتحكي قصّة انضمام سنو إلى طاقم تخطيط «مباريات الجوع» عندما كان شابًّا بنفسه.

في هذا الكتاب، تعرض لنا سوزان كولينز أصول الشرّ الظاهر الّذي رأيناه عند سنو في سلسلة «مباريات الجوع»، بل تبتدئ الكتاب باقتباسات من أبرز فلاسفة العقد الاجتماعيّ المذكور أعلاه: توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسّو.

في الرواية تعرض لنا كولينز تأثير نظريّة هوبز في مفاهيم السلطة عند الرئيس سنو، عندما كان شابًّا. باحث العلوم السياسيّة مايكل فوكس[13]، يدّعي أنّ ثمّة هيمنة لحالة الطبيعة الهوبزيّة في تشكيل فهمنا المعاصر للتاريخ، ويدعو إلى مقاومة هذه السرديّة الّتي تمجّد الحرب كونها الحلّ الوحيد للسيطرة على فطرة الإنسان. في بادئة «مباريات الجوع» تؤكّد كولينز، من خلال شخصيّات تتحدّى فكر سنو، وتمثّل فلسفة جون لوك وجان جاك روسّو، تؤكّد ضرورة رفض الاستبداد ومقاومته، حتّى لو جرى التلاعب به لعرض صورة عنيفة ودامية للواقع، وكأنّه المنفذ الوحيد. إنّ «مباريات الجوع» الّتي صُوِّرَتْ على أنّها تخدم النخبة، تعلّمنا أن نكون حذرين من القوّة بكلّ أشكالها بالضبط، كما عرضت لنا السلسلة الأصليّة.

في عصر الحزبيّة المفرطة، يحثّنا الأدب الديستوبيّ على حماية المفاهيم الأخلاقيّة الفطريّة، ويدعونا إلى التشكيك في ادّعاءات طبيعيّة الوضع الراهن والدعوات لتطبيعه. ربّما كان هذا الأدب أداة تحذير فترة الحرب العالميّة الثانية، لكنّه اليوم، تحوّل إلى أداة تعطينا الأمل بإمكانيّة مقاومة الرواية الهوبزيّة عن شرّ البشريّة، وبإمكانيّة إدراك الخير الفطريّ واحتضانه؛ لتجنّب المستقبل القاتم الّذي يصوّره الأدب الديستوبيّ.

 


إحالات

[1] هاكسلي، أ. (1943). عالم جديد شجاع. ترجمة: مروة سامي. (بيروت: عالم الأدب للترجمة والنشر، 2016).

[2] أورويل، ج. (1949). 1984. ترجمة: أنور الشامي. (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 2006).

[3] برادبوري، ر. (1953). فهرنهايت 451. ترجمة: سعيد العظم. (بيروت: دار الساقي، 2014). 

[4] توماس هوبز، (1651)، اللفياثان: الأصول الطبيعيّة والسياسيّة لسلطة الدولة. ترجمة: ديانا حبيب حرب. (أبو ظبي: دار كلمة، 2011). 

[5] لوك، ج. (1689). في الحكم المدنيّ. ترجمة: ماجد فخري. (بيروت: اللجنة الدوليّة لترجمة الروائع، 1959). 

[6] روسو، ج.ج. (1762). العقد الاجتماعيّ. ترجمة: عادل زعيتر. (مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013). 

[7] بثينة العيسى. حارس سطح العالم. (الكويت: منشورات تكوين والدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2019). 

[8]  Collins, S. (2008), The Hunger Games (Vol. 1). Scholastic Inc. ; Collins, S. (2008), Catching Fire (Vol. 2). Scholastic Inc. ; Collins, S. (2008), Mockingjay (Vol. 3).. Scholastic Inc. ; Collins, S. (2020). The Ballad of Songbirds and Snakes: A Hunger Games Novel (Vol. 4). Scholastic Australia.‏

[9] Roth, V. (2011). Divergent (Vol. 1). New York, NY: HarperCollins .; Roth, V. (2012). Insurgent (Vol. 2). New York, NY: HarperCollins. ; Roth, V. (2013). Allegiant (Vol. 3). New York, NY: HarperCollins.

[10]  Lowry, L. (1993-2014). The Giver Quartet. Houghton Mifflin Harcourt.‏

[11] كولينز، س. ألسنة اللهب. ترجمة: سعيد الحسنيّة. (بيروت: الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2011).

[12] Khader, J. (2013, December 28). When the revolution comes to Israel. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/opinions/2013/12/28/when-the-revolution-comes-to-israel ; Baroud, R. (2015, February 13). Mockingjay Palestine: If we burn, you burn with us. Middle East Eye. https://www.middleeasteye.net/opinion/mockingjay-palestine-if-we-burn-you-burn-us ; Zornosa, L. (2023, November 17). We’re Not Too Far From the Reality of The Ballad of Songbirds and Snakes. TIME. https://time.com/6337113/hunger-games-squid-game-dystopian-reality/

[12] Fox, M.A. Understanding peace: a comprehensive introduction. (New York: Routledge-Taylor & Francis, 2014).

 


 

لؤي وتد

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».