19/03/2024 - 12:00

المحرقة بعد غزة

أصبحت غزة وفي الوقت نفسه بالنسبة لعدد لا يحصى من الضعفاء الشرط الأساسي للوعي السياسي والأخلاقي في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما كانت الحرب العالمية الأولى لجيل كامل في الغرب...

المحرقة بعد غزة

القصف الإسرائيليّ المتواصل على غزّة (Getty)

عثر الكاتب النمساوي جان أميري في عام 1977، قبل عام من انتحاره، على تقارير صحفية تشير إلى التعذيب المنهجي الممارس ضد السجناء العرب في السجون الإسرائيلية. كان أميري قد اعتُقل في بلجيكا عام 1943 في أثناء توزيعه منشوراتٍ مناهضة للنازية، وتعرض لتعذيبٍ وحشيٍ على يد الغستابو [1]، ورُحِّل بعدها إلى أوشڨيتز. تمكن أميري من البقاء حيًّا، بيد أنه لم يستطع أبدًا النظر إلى عذاباته على أنها أحداث ماضية يُمكن تجاوزها، بل وأصر على أن الذين تعرضوا للتعذيب يظلون معذبين، وألَّا تراجع ممكن عن صدمتهم. شعر أميري، مثل العديد من الناجين من معسكرات الموت النازية، بـ «ارتباط وجودي» بإسرائيل في الستينيات. وألقى بسهام هجومه المستوحشة على منتقدي الدولة اليهودية اليساريين ووصفهم بأنهم «رعناء وبلا ضمير»، ولعله كان من أوائل من استخدم صفة وادعاء أن اللاساميين الأشرار، التي يبالغ في استخدامها الآن على يد قادة إسرائيل ومؤيديها، يتخفّون في هيئة المناهضين الفاضلين للإمپريالية ومناهضة الصهيونية. إلا إن التقارير «المشكوك في صحتها» عن التعذيب في السجون الإسرائيلية دفعت أميري إلى النظر في حدود تضامنه مع الدولة اليهودية. وفي أحد المقالات الأخيرة التي نشرها، كتب: «إنني أدعو بشكل عاجل جميع اليهود الذين يريدون أن يكونوا بشرًا إلى الانضمام إليّ في الإدانة الراديكالية للتعذيب المنهجي، فحتى أعتى أشكال الالتزامات الوجودية يجب أن تنتهي حين تبدأ الهمجية».

كان أميري منزعجًا انزعاجًا شديدًا من تأليه مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل عام 1977. وكان بيغن، الذي نظَّم تفجير فندق الملك داود في القدس عام 1946 وقتل فيه 91 شخصًا، أول دعاة التفوق اليهودي الصريحين الذين ما زالوا يحكمون إسرائيل. وكان أيضًا أول من استحضر هتلر والهولوكوست[2] والكتاب المقدس في أثناء مهاجمته للعرب وبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة استحضارًا روتينيًا. كانت علاقة دولة إسرائيل في سنواتها الأولى متناقضة مع المحرقة وضحاياها. رأى أول رئيس وزراء لإسرائيل، دافيد بن غوريون، في البداية أن الناجين من المحرقة «حطام بشري»، مدعيًا أنهم نجوا فقط لأنهم كانوا «سيئين، وقاسين، ومغرورين». كان الديماغوجي البولندي بيغن، منافس بن غوريون، هو الذي حوّل قتل ستة ملايين يهودي إلى انشغال وطني مكثف، وأساس جديد لهوية إسرائيل. بدأت المؤسسات الإسرائيلية في إنتاج ونشر نسخة خاصة جدًا من المحرقة يمكن استخدامها لإضفاء الشرعية على الصهيونية المتشددة والتوسعية.

وأشار أميري إلى الخطاب الجديد وكان قاطعًا بشأن عواقبه المدمرة على اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل. وكتب أن بيغن، «والتوراة بين ذراعيه ولجوئه إلى الوعود التوراتية»، وحديثه صراحة عن سرقة الأراضي الفلسطينية يجب أن تكون «وحدها سببًا كافيًا لليهود في الشتات لمراجعة علاقتهم بإسرائيل». وناشد أميري قادة إسرائيل أن «اعترفوا أن حريتكم لا يمكن تحقيقها إلا مع ابن عمكم الفلسطيني، وليس ضده».

هاجم بيغن لبنان بعد خمس سنوات، مع إصراره على أن العرب هم النازيون الجدد وياسر عرفات هو هتلر الجديد. وبحلول الوقت الذي اتهمه فيه رونالد ريغان بارتكاب «هولوكوست» وأمره بوضع حد له، كان الجيش الإسرائيلي قد قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين وطمس أجزاء كبيرة من بيروت. يصور المؤلف الصربي اليهودي ألكسندر تيشما في روايته «كابو Kapo» (1993) الاشمئزاز الذي شعر به العديد من الناجين من المحرقة من الصور القادمة من لبنان: «اليهود، وأقاربهم، وأبناء وأحفاد معاصريهم، ونزلاء المحرقة السابقين في المخيمات، وقفوا داخل أبراج الدبابات وقادوها، وهم يلوحون بالأعلام، فوق مستوطنات غير محمية، فوق اللحم البشري، ومزقوه برصاص الرشاشات، وجمعوا الناجين في المخيمات المسيجة بالأسلاك الشائكة».

القصف الإسرائيليّ المتواصل على غزّة (Getty)

نظم بريمو ليڨي، الذي عرف أهوال أوشڨيتز كما عرفها أميري، وشعر أيضًا بتقارب عاطفي تجاه الدولة اليهودية الجديدة، بسرعة رسالة احتجاج مفتوحة وأجرى مقابلة قال فيها إن «إسرائيل تنحدر بسرعة إلى العزلة التامة... يتعين علينا أن نخنق الدوافع نحو التضامن العاطفي مع إسرائيل لكي نفكر ببرود في أخطاء الطبقة الحاكمة الحالية في إسرائيل. تخلصوا من تلك الطبقة الحاكمة». في العديد من الأعمال الخيالية والواقعية، لم يتأمل ليڨي فقط في الفترة التي قضاها في معسكر الموت وإرثه المؤلم وغير القابل للحل، ولكن أيضًا في التهديدات الحالية التي تهدد الكرامة الإنسانية. لقد كان غاضبًا بشكل خاص من استغلال بيغن للمحرقة. وبعد ذلك بعامين، قال إن «مركز ثقل العالم اليهودي يجب أن يأخذ خطوة إلى الوراء، ويجب أن يخرج من إسرائيل ويعود إلى الشتات».

تُدان اليوم الشكوك التي عبر عنها أميري وليڤي بوصفها لاساميّة معادية. ومن الجدير بالذكر أن العديد من عمليات إعادة النظر في الصهيونية والمخاوف بشأن نظرة اليهود في العالم قد حُرضّت واستفزت لدى الناجين والشهود على المحرقة بسبب احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وأساطيرها الجديدة المخادعة. وكان يشعياهو ليبوفيتش، رجل الدّين الذي فاز بجائزة إسرائيل عام 1993، قد حذر بالفعل عام 1969 من «نازية» إسرائيل. وصف كاتب العمود الإسرائيلي بوعاز عيفرون في عام 1980 بعناية مراحل هذا التآكل الأخلاقي: كان يخشى أن يكون تكتيك الخلط بين الفلسطينيين والنازيين والصراخ بأن محرقة أخرى وشيكة، يحرر الإسرائيليين العاديين من «أي قيود أخلاقية، لأن الشخص الذي يعيش خطر التدمير والفناء يرى نفسه معفيًا من أية اعتبارات أخلاقية قد تحد من جهوده لإنقاذ نفسه». وكتب عيفرون أن اليهود قد ينتهي بهم الأمر إلى معاملة «غير اليهود على أنهم دون البشر» وتكرار «المواقف النازية العنصرية».

وحث عيفرون على توخي الحذر أيضًا تجاه مؤيدي إسرائيل (الجدد والمتحمسين آنذاك) بين السكان اليهود الأميركيين. بالنسبة لهم، كما قال، أصبح الدفاع عن إسرائيل «ضروريًا بسبب فقدان أي نقطة محورية أخرى لهويتهم اليهودية»، في الواقع، كان افتقارهم الوجودي كبيرًا جدًا، وفقًا لعيفرون، لدرجة أنهم لم يرغبوا في أن تصبح إسرائيل قادرة على المواصلة دون اعتمادٍ متزايدٍ على الدعم اليهودي الأميركي. «إنهم بحاجة إلى الشعور بالحاجة لهم. كما أنهم بحاجة إلى 'البطل الإسرائيلي' كتعويض اجتماعي وعاطفي في مجتمع لا يُنظر فيه عادة إلى اليهودي على أنه يجسد خصائص المقاتل الرجولي القوي. وعلى هذا فإن الإسرائيلي يقدم لليهودي الأميركي صورة مزدوجة متناقضة 'الرجل الرجولي الخارق، وضحية المحرقة المحتملة'، وكلاهما عنصران بعيدان عن الواقع».

يئس زيغمونت بومان، الفيلسوف اليهودي البولندي المولد واللاجئ من النازية الذي أمضى ثلاث سنوات في إسرائيل في السبعينيات قبل أن يفر من مزاجها العدواني، مما اعتبره «خصخصة» إسرائيل ومؤيديها للمحرقة. وكتب في عام 1988 أنها أمست في الذاكرة بوصفها «تجربة خاصة لليهود، وبوصفها مسألة بين اليهود وكارهيهم»، حتى مع ظهور الظروف التي جعلت ذلك ممكنًا مرة أخرى في جميع أنحاء العالم. لقد أدرك هؤلاء الناجون من المحرقة، الذين انزلقوا من الإيمان الهادئ بالنزعة الإنسانية العلمانية إلى الجنون الجماعي، أن العنف الذي نجوا منه، الذي لم يسبق له مثيل في حجمه، لم يكن انحرافًا عن حضارة حديثة سليمة في الأساس. ولا يمكن إلقاء اللوم بالكامل على التحيز القديم ضد اليهود. لقد مكنت التكنولوجيا والتقسيم العقلاني للعمل الناس العاديين من المساهمة في أعمال الإبادة الجماعية بضمير مرتاح، حتى مع رعونة الفضيلة، وكانت الجهود الوقائية ضد أساليب القتل غير الشخصية والمتاحة هذه تتطلب أكثر من اليقظة ضد اللاسامية.

عندما لجأت مؤخرًا إلى كتبي لإعداد هذه المقالة، وجدت أنني قد وضعت خطًا تحت العديد من الفقرات التي اقتبستها هنا. توجد في مذكراتي سطورًا منسوخة من جورج شتاينر ('الدولة القومية الممتلئة بالسلاح هي من البقايا المريرة والسخيفة في قرن ازدحام البشر')[3] وأبا إيبان ('أما آن الوقت لأن نقف على أقدامنا وليس على الستة ملايين قتيل'). يعود تاريخ معظم هذه الشروحات إلى زيارتي الأولى لإسرائيل والأراضي المحتلة، عندما كنت أحاول الإجابة، ببراءتي، على سؤالين محيرين: كيف تمكنت إسرائيل من ممارسة مثل هذه السلطة الرهيبة للحياة والموت على سكانها اللاجئين؟ وكيف يمكن للتيار السياسي والصحفي الغربي أن يتجاهل، أو حتى يبرر، أعمالها الوحشية وظلمها المنهجي الواضح؟

عائلة نازحة إلى رفح جراء القصف الإسرائيليّ المتواصل على غزّة (Getty)

لقد نشأت متشربًا بعضًا من تبجيل الصهيونية في عائلتي المكونة من قوميين هندوس من الطبقة العليا في الهند. ظهرت كل من الصهيونية والقومية الهندوسية في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة تجربة الإذلال، وكان العديد من منظريهم يتوقون إلى التغلب على ما اعتبروه افتقارًا مخزيًا للرجولة بين اليهود والهندوس. وبالنسبة للقوميين الهندوس في السبعينيات، الذين كانوا منتقدين عاجزين لحزب المؤتمر المؤيد للفلسطينيين الحاكم آنذاك، بدا أن الصهاينة المتصلبين مثل بيغن وأرييل شارون وإسحق شامير قد فازوا بالسباق نحو إقامة دولة قوية. (الحسد أصبح الآن علنيًا: المتصيدون الهندوس يشكلون أكبر نادٍ للمعجبين ببنيامين نتنياهو في العالم). أتذكر أنه كانت لدي صورة على حائط منزلي لموشيه ديان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ووزير دفاعها خلال حرب الأيام الستة. وحتى بعد فترة طويلة من تلاشي افتتاني الطفولي بالقوة الغاشمة، لم أتوقف عن رؤية إسرائيل بالطريقة التي بدأ قادتها بتقديمها بها منذ الستينيات، باعتبارها فداءً لضحايا المحرقة، وضمانة غير قابلة للكسر ضد تكرارها.

لم أكن أعرف الكثير عن محنة اليهود الذين قُدِّموا كبش فداء خلال الانهيار الاجتماعي والاقتصادي في ألمانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين في ضمير زعماء أوروبا الغربية وأميركا، حتى أن الناجين من المحرقة قوبلوا بالرفض والإنكار، وفي أوروبا الشرقية، بمذابح جديدة. وعلى الرغم من اقتناعي بعدالة القضية الفلسطينية، إلا أنني وجدت صعوبة في مقاومة المنطق الصهيوني القائل: لا يستطيع اليهود البقاء في أراضٍ غير يهودية، ويجب أن تكون لهم دولة خاصة بهم. بل إنني اعتقدت أنه من الظلم أن تكون إسرائيل وحدها من بين جميع دول العالم هي التي تحتاج إلى تبرير حقها في الوجود.

لم أكن ساذجًا بما فيه الكفاية للاعتقاد بأن المعاناة تعزِّز أو تُمكِّن ضحايا الفظائع العظيمة من التصرف بطريقة متفوقة أخلاقيًا. إن ضحايا الأمس من المرجح أن يتحولوا إلى مجرمي اليوم، وهو درسٌ استفدناه من العنف المنظم في يوغوسلافيا السابقة، والسودان، الكونغو، ورواندا، وسريلانكا، وأفغانستان، والعديد من الأماكن الأخرى. وما زلت مصدومًا من المعنى المظلم الذي استخلصته الدولة الإسرائيلية من المحرقة، ثم أضفت عليه الطابع المؤسسي في آلية القمع. ويبدو أن عمليات القتل المستهدف للفلسطينيين، ونقاط التفتيش، وهدم المنازل، وسرقة الأراضي، والاعتقالات التعسفية لأجل غير مسمى، والتعذيب على نطاق واسع في السجون، تعلن عن روح وطنية لا تعرف الرحمة: أن البشرية منقسمة إلى أولئك الأقوياء وأولئك الضعفاء، وبالتالي فإن هؤلاء الذين كانوا أو يتوقعون أن يكونوا ضحايا أن يسحقوا أعدائهم المتخيلين استباقيًا.

على الرغم من أنني قرأت لإدوارد سعيد، إلا أنني كنت ما أزال تحت تأثير الصدمة عندما اكتشفت بنفسي كيف يخفي مؤيدو إسرائيل رفيعو المستوى في الغرب، بشكل خبيث، نظرية البقاء العدمية الأقوى التي أعادت إنتاجها جميع الأنظمة الإسرائيلية منذ نظام بيغن. ومن مصلحتهم أن يهتموا بجرائم المحتلين، إن لم يكن بمعاناة المحرومين والمجردين من إنسانيتهم، لكن كلاهما مر دون قدر كبير من التدقيق في الصحافة الموقَّرة في العالم الغربي. وكل من يلفت الانتباه إلى مشهد التزام واشنطن الأعمى تجاه إسرائيل يُتهم باللاسامية وأنه يتجاهل دروس المحرقة. ويضمن الوعي المشوه بالمحرقة أنه كلما ثار ضحايا إسرائيل، غير القادرين على تحمل بؤسهم لفترة أطول، ضد مضطهديهم بشراسة يمكن التنبؤ بها، يُدانون باعتبارهم نازيين، عازمين على ارتكاب محرقة أخرى.

من خلال قراءتي وتعليقي على كتابات أميري وليڨي وآخرين، كنت أحاول بطريقة أو بأخرى التخفيف من وطأة شعوري بالغبن والذنب نظرًا لتأثري وتصديقي للتفسير المظلم الذي قدمته إسرائيل للمحرقة، ولشهادات الجدارة الأخلاقية العالية التي منحت للدولة اليهودية من حلفائها الغربيين. كنت أبحث عن الطمأنينة من الناس الذين عرفوا، في أجسادهم الضعيفة، الرعب الوحشي الذي تعرض له الملايين من قبل دولة قومية أوروبية متحضرة، والذين قرروا أن يكونوا على حذر دائم ضد تشويه معنى المحرقة والحرب، وضد إساءة استخدام ذاكرتها.

دأبت الطبقة السياسية والإعلامية في الغرب، على الرغم من تحفظاتها المتزايدة بشأن إسرائيل، على تلطيف الحقائق الصارخة للاحتلال العسكري والضم غير المحدود الذي ينفذه الديماغوجيين العرقيين القوميين. تقول الجوقة: لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها من المتوحشين باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك لا يستطيع ضحايا الهمجية الإسرائيلية في قطاع غزّة اليوم انتزاع اعتراف مباشرٍ بمحنتهم من النخب الغربية، ناهيك عن الحصول على الدّعم. شهد مليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم هجمة غير عادية في الأشهر الأخيرة، وقال بلين ني جراليغ، المحامي الأيرلندي وممثل جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي، إن ضحاياها «يبثون دمارهم الخاص» في الوقت الفعلي، في أمل يائس، وعبثي حتى الآن، في أن يفعل العالم شيئًا ما.

لكن العالم، أو الغرب على وجه التحديد، لا يفعل أي شيء. والأسوأ من ذلك، أن تصفية قطاع غزّة، على الرغم من أنها مُعلنة ويبثّها مرتكبيها، يُعتّم عليها إعلاميًا يوميًا، وبل ويجري إنكارها في كثير من الأحيان على أيدي أدوات الهيمنة العسكرية والثقافية للغرب: ابتداءً من ادّعاء الرئيس الأميركي بكذب الفلسطينيين، وليس انتهاءً بالساسة الأوروبيين الذين يتغنون بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها أمام وسائل الإعلام المرموقة التي تستخدم المبني للمجهول في نقلها المجازر التي ارتكبت في قطاع غزة. نجد أنفسنا في وضع غير مسبوق. لم يحدث من قبل أن شهد هذا العدد الكبير من الناس مذبحة لهذا النطاق على الهواء مباشرةً. إلا إن القسوة والجبن والرقابة السائدة لا تسمح، بل وتسخر، من صدمتنا وحزننا. الكثير منا ممن شاهدوا بعض الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غزة أصابهم الجنون بصمتٍ وهم ينظرون إلى تلك الصور الجحيمية للجثث الملتوية معًا والمدفونة في مقابر جماعية، أو جثث الأطفال الصغار التي يحملها آباءها المكلومون، أو الموضوعة على الأرض في صفوف مرتبة. يتسمم إدراكنا كل يوم أنه وبينما نمضي في حياتنا، يتعرض المئات من الأشخاص العاديين مثلنا للقتل، أو يُجبرون على أن يشهدوا مقتل أطفالهم.

أولئك الذين يدفعون لقراءة وجه جو بايدن بحثًا عن أي علامة على الرحمة، أو علامة ما على نهاية إراقة الدماء، يجدون صلابة ناعمة مخيفة، لا تكسرها سوى ابتسامة صغيرة متوترة عندما يطلق الأكاذيب الإسرائيلية حول الأطفال مقطوعي الرؤوس. إن حقد بايدن العنيد وقسوته تجاه الفلسطينيين هو مجرد لغزٍ واحد من العديد من الألغاز الشنيعة التي قدمها لنا السياسيون والصحفيون الغربيون. لقد أصابت المحرقة جيلين يهوديين على الأقل بالصدمة، وأدت المذابح واحتجاز الرهائن في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول على يد حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية إلى إحياء الخوف من الإبادة الجماعية بين العديد من اليهود. ولكن كان من الواضح منذ البداية أن القيادة الإسرائيلية الأكثر تعصبًا في التاريخ لن تتوانى عن استغلال الشعور السائد بالانتهاكات والفجيعة والرعب. وكان من السهل على الزعماء الغربيين أن يخنقوا دافعهم للتضامن غير المشروط مع نظام متطرف، بينما يعترفون في الوقت نفسه بضرورة ملاحقة وتقديم المذنبين بارتكاب جرائم حرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى العدالة. لماذا إذن أكد كير ستارمر، المحامي السابق في مجال حقوق الإنسان، أن لإسرائيل الحق في «قطع الكهرباء والمياه» عن الفلسطينيين؟ لماذا بدأت ألمانيا ببيع محمومٍ ومتزايدٍ للأسلحة إلى إسرائيل؟ (وبفضل وسائل الإعلام الكاذبة والحملة الرسمية القاسية، وخاصة ضد الفنانين والمفكرين اليهود، تقدم ألمانيا درسًا جديدًا للعالم في الصعود السريع للقومية العرقية القاتلة هناك). وكيف تُعللُ العناوين الرئيسة في بي بي سي وفي نيويورك تايمز مثل «هند رجب، ستة أعوام، وُجدت ميتة في غزة بعد أيام من مكالمات هاتفية لطلب المساعدة»، و«دموع والد من غزة فقد 103 من أقاربه»، و«الشرطة: رجل يموت بعد أن أشعل النار في نفسه خارج السفارة الإسرائيلية في واشنطن»؟ لماذا يستمر السياسيون والصحفيون الغربيون في تقديم عشرات الآلاف من القتلى والمصابين الفلسطينيين بوصفهم أضرار جانبية في حرب دفاع عن النفس مفروضة على الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، كما يدعي الجيش الإسرائيلي؟

إن الإجابات بالنسبة لكثير من الناس في جميع أنحاء العالم لا يمكن إلا أن تكون إجابات مشوبة بالمرارة العنصرية التي تختمر منذ فترة طويلة. تُعتبر فلسطين، كما أشار جورج أورويل في عام 1945، «قضية ملونة»، وهذه هي الطريقة التي نظر إليها غاندي حتمًا، الذي ناشد القادة الصهاينة بعدم اللجوء إلى الإرهاب ضد العرب باستخدام الأسلحة الغربية، وكل دول ما بعد الاستعمار، التي رفضت جميعها تقريبًا الاعتراف بدولة إسرائيل. إن ما أسماه دو بويز بـ «الخط اللوني» هي المشكلة المركزية في السياسة الدولية، والتي كانت الدافع وراء نيلسون مانديلا عندما قال إن تحرر جنوب إفريقيا من الفصل العنصري «غير مكتمل بدون حرية الفلسطينيين». سعى جيمس بالدوين إلى تدنيس ما أسماه «الصمت الخاضع» حول سلوك إسرائيل عندما ادعى أن الدولة اليهودية، التي باعت الأسلحة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، تجسد التفوق الأبيض وليس الديمقراطية. رأى محمد علي في فلسطين مثالًا على الظلم العنصري الفادح. وكذلك يفعل اليوم زعماء أقدم وأبرز الطوائف المسيحية السوداء في الولايات المتحدة، الذين اتهموا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وطلبوا من بايدن إنهاء جميع المساعدات المالية والعسكرية لها.

كان بالدوين في عام 1967 يفتقر إلى اللباقة بما يكفي ليقول إن معاناة الشعب اليهودي «معترف بها كجزء من التاريخ الأخلاقي للعالم، أما معاناة السود فليست كذلك». وفي عام 2024، يستطيع عدد أكبر من الناس أن يروا أنه بالمقارنة مع الضحايا اليهود للنازية، فإن الملايين التي لا تعد ولا تحصى من الناس الذين استهلكتهم العبودية، والمحرقات الڤيكتورية العديدة في آسيا وإفريقيا، والهجمات النووية على هيروشيما ناكازاكي، لا تُذكر إلا بالكاد. لقد سُيِّسَ المليارات من غير الغربيين بشدة في السنوات الأخيرة بسبب حرب الغرب الكارثية على الإرهاب، و«الفصل العنصري في مجال اللقاحات» في أثناء الجائحة، والنفاق السافر بشأن محنة الأوكرانيين والفلسطينيين، ولا يمكنهم إلا أن يلاحظوا نسخة عدوانية من «إنكار الهولوكوست» بين نخب البلدان الإمپريالية السابقة، الذين يرفضون معالجة ماضي بلدانهم الحافل بوحشية الإبادة الجماعية والنهب، ويحاولون جاهدين نزع الشرعية عن أي مناقشة لهذا الأمر باعتباره «صحوة»[4] مختلة. تواصل السرديات الغربية عن التوتاليتارية تجاهلها للأوصاف الحادّة للنازية (لجواهر لال نهرو وإيمي سيزير، من بين حكام الدول التي خضعت للاستعمار) باعتبارها «التوأم» الراديكالي للإمپريالية الغربية، وما زال الغرب خجولًا من استكشاف العلاقة الواضحة بين المذابح الإمپريالية للسكان الأصليين في المستعمرات وأعمال الإبادة الجماعية الإرهابية المرتكبة ضد اليهود داخل أوروبا[5].

أحد الأخطار الكبيرة اليوم هو تصلب خط الألوان إلى خط ماجينو[6] جديد. بالنسبة لأغلب الناس خارج الغرب، الذين كانت تجربتهم الأولية عن الحضارة الأوروبية هي للاستعمار الوحشي الذي نفذه الأوروبيون، لم تبدأ المحرقة وكأنها عمل وحشي غير مسبوق. وبعد أن تعافوا من ويلات الإمپريالية في بلدانهم، لم يكن معظم الناس غير الغربيين في وضع يسمح لهم بتقدير حجم الرعب الذي ألحقه التوأم الراديكالي لتلك الإمپريالية باليهود في أوروبا. لذا فحين يقارن زعماء إسرائيل حماس بالنازيين، وعندما يرتدي الدبلوماسيون الإسرائيليون نجومًا صفراء في الأمم المتحدة، فإن جمهورهم يكاد يكون غربيًا على وجه الحصر. لا تتحمل أغلب دول العالم عبء الذنب الأوروبي المسيحي بسبب المحرقة، ولا تنظر إلى إنشاء إسرائيل باعتباره ضرورة أخلاقية للتبرئة من خطايا الأوروبيين في القرن العشرين. ولأكثر من سبعة عقود من الزمن، ظلت الحجة بين «الشعوب الملونة» على حالها: لماذا ينبغي تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم ومعاقبتهم على جرائم لم يتواطأ على تنفيذها إلا الأوربيين؟ ولا يمكنهم إلا أن يتراجعوا بالاشمئزاز عن الادعاء الضمني بأن لإسرائيل الحق في ذبح 13 ألف طفل، ليس فقط من باب الدفاع عن النفس، بل لأنها دولة ولدت من رحم المحرقة.

كان توني جودت في عام 2006 قد حذر بالفعل من أنه «لم يعد من الممكن استخدام الهولوكوست لتبرير سلوك إسرائيل» لأن عددًا متزايدًا من الناس «لا يستطيعون ببساطة فهم كيف يمكن التذرع بأهوال الحرب الأوروبية الأخيرة لترخيص السلوك غير المقبول أو التغاضي عنه في زمان ومكان آخر». وحذر من أن «هوس الاضطهاد الذي طال أمده في إسرائيل في جُملٍ من قبيل 'يسعى الجميع للنيل منا' لم يعد يثير التعاطف»، وأن نبوءات اللّاسامية العالمية تخاطر «بالتحول إلى تأكيد ذاتي التحقق»: «سلوك إسرائيل المتهور والإصرار على تحديد جميع الانتقادات على أنها نابعة عن اللاسامية هي الآن المصدر الرئيسي للمشاعر المعادية لليهود في أوروبا الغربية ومعظم أنحاء آسيا. يؤجج أصدقاء إسرائيل الأكثر التزامًا بها اليوم هذا الوضع. وكما قال الصحفي وصانع الأفلام الوثائقية الإسرائيلي يوڤال أبراهام، فإن «سوء الاستخدام المروع» لاتهام اللاساميّة من قبل الألمان يفرغه من المعنى «وبالتالي يُعرّض اليهود في جميع أنحاء العالم للخطر». يواصل بايدن تقديم الحجة الغادرة بأن سلامة السكان اليهود في جميع أنحاء العالم تعتمد على إسرائيل. وكما قال إزرا كلاين، كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، مؤخرًا: «أنا شخص يهودي. هل أشعر بالأمان؟ هل أشعر أن اللاسامية أقل في العالم الآن بسبب ما يحدث هناك، أم يبدو لي أن هناك تصاعدًا كبيرًا في اللاساميّة، وأنه حتى اليهود في أماكن غير إسرائيل معرضون لما يحدث في إسرائيل؟»

لقد توقع الناجون من المحرقة الذين استشهدت بهم سابقًا هذا السيناريو المدمر بوضوح شديد، والذين حذروا من الضرر الذي لحق بذاكرة المحرقة من خلال استغلالها. حذر باومان مرارًا وتكرارًا بعد الثمانينيات من أن مثل هذه التكتيكات التي يستخدمها سياسيون عديمو الضمير مثل بيغن ونتنياهو كانت تضمن «انتصارًا بعد الوفاة لهتلر، الذي كان يحلم بخلق صراع بين اليهود والعالم أجمع» و«منع اليهود من التعايش السلمي مع الآخرين». ناشد أميري، الذي أصيب باليأس في سنواته الأخيرة بسبب «اللاساميّة المزدهرة»، الإسرائيليين أن يعاملوا حتى الإرهابيين الفلسطينيين بطريقة إنسانية، حتى لا يصبح التضامن بين صهاينة الشتات مثله وبين إسرائيل «أساسًا لشركة بين طرفين محكوم عليها بالفشل في وجه الكارثة».

لا يوجد الكثير مما يمكن توقعه في هذا الصدد من قادة إسرائيل الحاليين. إن اكتشاف ضعفهم الشديد أمام حزب الله وحماس يجب أن يجعلهم أكثر استعدادًا للمخاطرة بالتوصل إلى تسوية سلمية. ومع ذلك، ومع كل القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل والتي أغدقها عليهم بايدن، فإنهم يسعون بجنون إلى زيادة عسكرة احتلالهم للضفة الغربية وقطاع غزة. مثل هذا الأذى الذاتي هو التأثير طويل المدى الذي كان يخشاه بوعاز عيفرون عندما حذر من «الذكر المستمر للهولوكوست واللاساميّة وكراهية اليهود في كل الأجيال». وكتب: «لا يمكن فصل القيادة عن دعايتها الخاصة»، وتتصرف الطبقة الحاكمة في إسرائيل مثل زعماء «طائفة» تعمل «في عالم الأساطير والوحوش التي خلقتها أيديها»، وأنها «لم تعد قادرة على فهم ما يحدث في العالم الحقيقي» أو أنها لا «العمليات التاريخية التي وقعت فيها الدولة».

وبعد مرور أربعة وأربعين عامًا على كتابة إيڤرون لهذا المقال، أصبح من الواضح أيضًا أن رعاة إسرائيل الغربيين تحولوا إلى أسوأ أعدائها، الأمر الذي دفعها إلى المزيد من الهلوسة. وكما قال إيڤرون، فإن القوى الغربية تعمل ضد «مصالحها الخاصة وتطبق على إسرائيل علاقة تفضيلية خاصة، دون أن ترى إسرائيل نفسها ملزمة بالمثل». ونتيجة لذلك فإن «المعاملة الخاصة الممنوحة لإسرائيل، والتي عُبِّر عنها في الدعم الاقتصادي والسياسي غير المشروط، قد خلقت دفيئة اقتصادية وسياسية حول إسرائيل، مما أدى إلى عزلها عن الواقع الاقتصادي والسياسي العالمي».

ويهدد نتنياهو وزمرته أساس النظام العالمي الذي أعيد بناؤه بعد الكشف عن الجرائم النازية. وحتى قبل غزة، كانت المحرقة تفقد مكانتها المركزية في مخيلتنا للماضي والمستقبل. وصحيح أنها لم تشهد أي فظاعة تاريخية هذا القدر من الاهتمام والإحياء على الإطلاق، بيد إن ثقافة إحياء ذكرى المحرقة قد راكمت الآن تاريخًا طويلًا لها. ويظهر هذا التاريخ أن ذكرى المحرقة لم تنبع بشكل عضوي مما حدث بين عامي 1939 و1945 فحسب، بل أُسِّسَ لها تأسيسًا متعمدًا، ولأغراض سياسية محددة. والحقيقة أن الإجماع حول الأهمية العالمية للمحرقة صار الآن عُرضة للخطر بسبب الضغوط الإيديولوجية المتزايدة الوضوح التي فُرضت على ذكراها.

إن قيام النظام النازي الألماني والمتعاونين معه الأوروبيين بقتل ستة ملايين يهودي أصبح معروفًا على نطاق واسع بعد عام 1945. ولكن لسنوات عديدة لم يكن لهذه الحقيقة المذهلة سوى صدى سياسي وفكري ضئيل. لم يُنظر إلى المحرقة في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين باعتبارها من الفظائع المنفصلة عن فظائع الحرب الأخرى: محاولة إبادة السكان السلافيين، والغجر، والمعاقين، والمثليين جنسيًا. لا شك أن أغلب الشعوب الأوروبية كانت لديها أسبابها الخاصة لعدم الخوض في مسألة قتل اليهود. كان الألمان مهووسين بالصدمة التي تعرضوا لها من القصف والاحتلال من قبل قوى الحلفاء وطردهم الجماعي من أوروبا الشرقية. أرادت فرنسا وبولندا والنمسا وهولندا، التي تعاونت طوعًا مع النازيين، أن تقدم نفسها على أنها جزء من «المقاومة» الشجاعة للهتلرية. ظهرت الكثير من التذكيرات غير اللائقة بالتواطؤ بعد فترة طويلة من انتهاء الحرب في عام 1945. كان لألمانيا نازيون سابقون كمستشارين ورئيسين لها. وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عضوًا في نظام ڤيشي[7]. كان كورت فالدهايم في أواخر عام 1992 رئيسًا للنمسا على الرغم من وجود أدلة على تورطه في الفظائع النازية.

وحتى في الولايات المتحدة، كان يوجد «صمت عام ونوع من إنكار الدولة فيما يتعلق بالهولوكوست»، كما كتبت إيديث زيرتال في «هولوكوست إسرائيل وسياسة الأمة Israel’s Holocaust and the Politics of Nationhood» (2005)[8]. لم يمض وقت طويل بعد عام 1945 حتى بدأ تذكر الهولوكوست علنًا. وفي إسرائيل نفسها، كان الوعي بالمحرقة مقتصرًا لسنوات على الناجين منها، والذين، من المدهش أن نتذكرهم اليوم، كانوا غارقين في الازدراء من قبل قادة الحركة الصهيونية. كان بن غوريون قد رأى في البداية صعود هتلر إلى السلطة بمثابة «دفعة سياسية واقتصادية هائلة للمشروع الصهيوني»، لكنه لم يعتبر الحطام البشري من معسكرات الموت التابعة لهتلر مادة مناسبة لبناء دولة يهودية قوية جديدة. وقال بن گوريون: «كل ما تحمَّلوه طهر أرواحهم من كل خير». يتذكر شاول فريدلاندر، أبرز مؤرخي المحرقة، والذي غادر إسرائيل جزئيًا لأنه لم يتحمل رؤية المحرقة تُستخدم «ذريعةً لاتخاذ إجراءات قاسية ضد الفلسطينيين»، يتذكر في مذكراته «حيثُ تقود الذاكرة Where Memory Leads» (2016): أن العلماء الأكاديميين رفضوا الموضوع في البداية، وتركوه لمركز أبحاث توثيق المحرقة وتخليد ذِكرى ضحايها «ياد ڤاشيم יָד וָשֵׁם»[9].

بدأت المواقف تتغير فقط مع محاكمة أدولف أيخمان في عام 1961. يروي المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، في كتابه «المليون السابع The Seventh Million» (1993)، أن بن غوريون، الذي اتهمه بيغن وغيره من المنافسين السياسيين بعدم الحساسية تجاه الناجين من المحرقة، قرر تنظيم «تطهير وطني» من خلال إجراء محاكمة لأحد مجرمي الحرب النازيين. كان يأمل في تثقيف اليهود من الدول العربية حول المحرقة واللاساميّة الأوروبية (التي لم يكونوا على دراية بأي منها) والبدء في ربطهم باليهود من أصل أوروبي فيما بدا واضحًا جدًا أنه مجتمع متخيل بشكل غير كامل. ويواصل سيغيف وصف كيف طوّر بيغن عملية تشكيل الوعي بالمحرقة بين اليهود ذوي البشرة الداكنة الذين كانوا لفترة طويلة هدفًا للإذلال العنصري من قبل المؤسسة البيضاء في إسرائيل. عالج بيغن جروحهم الطبقية والعرقية من خلال وعدهم بالأرض الفلسطينية المسروقة ووضع اجتماعي واقتصادي أعلى من العرب المحرومين والمعوزين.

وتزامن هذا التوزيع للطابع الإسرائيلي مع اندلاع سياسات الهوية بين أقلية ثرية في الولايات المتحدة. وكما يوضح بيتر نوڤيك بتفصيل مذهل في كتابه «الهولوكوست في الحياة الأميركية The Holocaust in American Life» (1999)، فإن المحرقة «لم تلح في الأفق إلى هذا الحد» في حياة يهود أميركا حتى أواخر الستينيات. ولم يتناول هذا الموضوع سوى عدد قليل من الكتب والأفلام. وتناول فيلم «حكم في نومبرغ Judgment at Nuremberg» (1961) القتل الجماعي لليهود بوصفهِ من جرائم النازية المتعددة. في مقالته «المصير الفكري واليهودي» المنشورة في المجلة اليهودية عام 1957، لم يقل نورمان بودهوريتز، قدوة وراعي الصهاينة المحافظين الجدد في الثمانينيات، شيئًا على الإطلاق عن الهولوكوست.

القصف الإسرائيليّ المتواصل على غزّة (Getty)

لم تشجع المنظمات اليهودية، التي اشتهرت بمراقبة الرأي العام حول الصهيونية إحياء ذكرى الضحايا اليهود في أوروبا في البداية. وكانوا يتدافعون لتعلم القواعد الجديدة للعبة الجيوسياسية. انتقل الاتحاد السوفييتي، في التحولات الشبيهة بتبدل ألوان الحرباء في أوائل الحرب الباردة، من كونه حليفًا قويًا ضد ألمانيا النازية إلى شر توتاليتاري، وانتقلت ألمانيا من كونها دولة شريرة توتاليتارية إلى حليف ديمقراطي قوي ضد الشر التوتاليتاري. وبناءً على ذلك، حث محرر مجلة «كومنتاري» اليهود الأميركيين على تعزيز «موقف واقعي بدلًا من الموقف العقابي والإجرامي» تجاه ألمانيا، التي أصبحت الآن أحد أعمدة «الحضارة الديمقراطية الغربية».

لقد صدمت هذه المحاولة واسعة النطاق التي قام بها القادة السياسيون والمثقفون في العالم الحر العديد من الناجين من المحرقة وأثارت حفيظتهم. ومع ذلك، لم يُنظر إليهم بعد ذلك على أنهم شهود متميزون للعالم الحديث. أميري، الذي كان يكره «محبة السامية اللحوحة» التي انتشرت في ألمانيا ما بعد الحرب، اضطر إلى تضخيم «استياءه» الخاص في مقالات تهدف إلى إثارة «الضمير البائس» للقراء الألمان. يصف في إحدى هذه الرحلات السفر عبر ألمانيا في منتصف الستينيات. في أثناء مناقشة رواية شاول بيلو الأخيرة مع المثقفين «الجدد» في البلاد، لم يستطع أن ينسى «الوجوه الحجرية» للألمان العاديين أمام كومة من الجثث، واكتشف أنه يحمل «ضغينة» جديدة ضد الألمان ومكانتهم الرفيعة في «قاعات الغرب المهيبة». إن تجربة أميري في «الوحدة المطلقة» أمام معذبيه في الغستابو دمرت «ثقته في العالم». ولم يعرف مرة أخرى «التفاهم المتبادل» مع بقية البشرية إلا بعد تحريره لأن «أولئك الذين عذبوني وحولوني إلى حشرة» بدا وكأنهم يثيرون «الازدراء» فيه. لكن إيمانه المتشافي بـ «توازن الأخلاق العالمية» سرعان ما تحطم بسبب احتضان الغرب اللاحق لألمانيا، وتجنيد العالم الحر المتلهف للنازيين السابقين في «لعبة القوة» الجديدة.

وكان أميري سيشعر بالخيانة أكثر لو اطلع على مذكرة موظفي اللجنة اليهودية الأميركية في عام 1951، التي أعربت عن أسفها لحقيقة مفادها أن «الحكم على ألمانيا والألمان ما يزال بالنسبة لمعظم اليهود مدفوعًا بمشاعرهم الجيَّاشة». يوضح نوڤيك أن اليهود الأميركيين، مثل المجموعات العرقية الأخرى، كانوا حريصين على تجنب تهمة الولاء المزدوج والاستفادة من الفرص الآخذة في التوسع بشكل كبير التي توفرها أميركا ما بعد الحرب. لقد أصبحوا أكثر انتباهًا للوجود الإسرائيلي خلال محاكمة أيخمان التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة ومثيرة الجدل، الأمر الذي جعل حقيقة أن اليهود كانوا الأهداف والضحايا الرئيسيين لهتلر أمرًا لا مفر منه. ولكن فقط بعد حرب الأيام الستة في عام 1967 وحرب يوم الغفران في عام 1973، عندما بدت إسرائيل مهددة وجوديًا من قبل أعدائها العرب، صُوِّرت المحرقة على نطاق واسع، في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، باعتبارها شعار ورمزٌ للضعف اليهودي في عالم معادٍ لهم إلى الأبد. بدأت المنظمات اليهودية في نشر شعار «لن تتكرر أبدًا» للضغط من أجل السياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل. بدأت الولايات المتحدة، التي تواجه هزيمة مذلة في شرق آسيا، تنظر إلى إسرائيل التي لا تقهر باعتبارها وكيلًا قيمًا في الشرق الأوسط، وبدأت في تقديم مساعداتها السخية للدولة اليهودية. وفي المقابل، فإن السرد الذي روج له القادة الإسرائيليون والجماعات الصهيونية الأميركية، بأن المحرقة كانت خطرًا حاضرًا ووشيكًا على اليهود، بدأ يخدم كأساس لتعريف الذات الجماعي للعديد من الأميركيين اليهود في السبعينيات.

كان الأميركيون اليهود في ذلك الوقت الأقلية الأكثر تعليمًا وازدهارًا في أميركا، وكانوا غير متدينين على نحو متزايد. وفي المجتمع الأميركي المستقطب بالحقد في أواخر الستينيات والسبعينيات، حيث أصبح العزل العرقي والفصل العنصري شائعًا وسط شعور واسع النطاق بالفوضى وانعدام الأمن، وحيث تحولت كارثة المحرقة التاريخية إلى شارة للهوية والاستقامة الأخلاقية، ربط الكثير من اليهود الأميركيين أنفسهم بذكرى المحرقة وأقاموا علاقات شخصية مع إسرائيل التي رأوا أنها مهددة بالإبادة الجماعية بسبب اللاسامية. لقد تحول التقليد السياسي اليهودي المنشغل بقضايا عدم المساواة، والفقر، والحقوق المدنية، وحماية البيئة، ونزع السلاح النووي، ومعاداة الإمپريالية، إلى تقليد يتميز بالاهتمام المفرط بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. في المجلات التي احتفظ بها منذ الستينيات فصاعدًا، يتناوب الناقد الأدبي ألفريد كازين بين الحيرة والازدراء في رسم الدراما النفسية للهوية الشخصية التي ساعدت في إنشاء جمهور إسرائيل الأكثر ولاءً في الخارج:

«سوف نتذكر يومًا ما الفترة الحالية من 'النجاح' اليهودي باعتبارها واحدة من أعظم المفارقات... وقع اليهود في الفخ، ومارس اليهود القتل! وبين كل هذا الرثاء الذي لا مفر منه من استغلال الهولوكوست... إسرائيل بوصفها «حامية اليهود»، تصير المحرقة كتابًا مقدسًا جديدًا بدلًا من كتاب مراثٍ».

كان كازين يعاني من حساسية تجاه التطرف الأميركي لإيلي ڤيزل، الذي كان يؤكد أن المحرقة كانت فوق حدود الفهم، ولا تضاهى، ولا يمكن مقاربتها، وأن الفلسطينيين ليس لهم الحق في القدس. ومن وجهة نظر كازين، فإن «الطبقة الوسطى اليهودية الأميركية» وجدت في ڤيزل «يسوع الهولوكوست»، و«بديلًا لفراغهم الديني». لم تغب سياسات الهوية القوية للأقلية الأميركية عن ذهن بريمو ليڤي في أثناء زيارته الوحيدة لها في عام 1985. كان منزعجًا للغاية، قبل عامين من انتحاره. من ثقافة استهلاك الهولوكوست الواضحة حول ڤيزل (الذي ادعى أنه كان صديق ليڤي العظيم في أوشڤيتز، ولم يتذكر ليڤي أنه التقى به على الإطلاق) وكان في حيرة من شبق مضيفيه الأميركيين بيهوديته. كتب لأصدقائه في تورينو [أو طرونة، مدينة إيطالية] واشتكى من أن الأميركيين «علقوا عليه نجمة داود». وفي حديث في بروكلين، عندما سئل ليڤي عن رأيه في سياسة الشرق الأوسط، بدأ يقول إن «إسرائيل كانت خطأ من الناحية التاريخية». وحدثت ضجة واضطر مدير الجلسة إلى إيقاف الجلسة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، كلفت مجلة «كومنتاري»، التي كانت مؤيدة لإسرائيل بشكل صارخ، شابًا يبلغ من العمر 24 عامًا يريد أن يصبح من المحافظين الجدد لشن هجمات سامة على ليڤي. باعتراف ليڤي نفسه، ساهمت هذه البلطجة الفكرية (التي ندم عليها بشدة مؤلفها المناهض للصهيونية اليوم) في إخماد «رغبته في الحياة».

تُظهر الأدبيات الأميركية الحديثة بوضوح التناقض المتمثل في أنه كلما ابتعدت المحرقة بمرور الوقت، استحوذت الأجيال اللاحقة من اليهود الأميركيين على ذكراها استحواذًا أكثر شراسة. لقد صدمت من الاستخفاف الذي أبداه إسحاق باشيفيس سينغر، المولود عام 1904 في بولندا، الذي يعد من نواحٍ عديدة الكاتب اليهودي المثالي في القرن العشرين، في تصوير الناجين من المحرقة في رواياته، وسخر من دولة إسرائيل ومن محبة السامية المتلهفة لدى غير اليهود الأميركيين. يبدو أن رواية مثل «ظلال على نهر الهدسن Shadows on the Hudson» قد كُتبت لتثبت أن القمع لا يحسن الشخصية الأخلاقية. أما الكتّاب اليهود الأصغر سنًا والأكثر علمانية من سينغر فقد بدوا غارقين جدًا فيما أسمته جيليان روز في مقالتها اللاذعة عن فيلم «قائمة شندلر Schindler’s List» (1999) بـ «طاعة الهولوكوست». أشار جيمس وود في مراجعته لرواية «تاريخ الحب The History of Love» (2005)، كتبتها نيكول كراوس وتدور أحداثها في إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة، إلى أن مؤلفتها، المولودة في عام 1974، «تكتبُ كما لو أن الهولوكوست حدث بالأمس». ويضيف وود بأن يهودية الرواية قد «شُوّهت واستغلت استغلالًا مسرحيًا لتماهي كراوس معها». تتناقض مثل هذه «الحماسة اليهودية»، الأقرب للكاريكاتورية منها للواقع، تناقضًا حادًّا مع أعمال بيلو ونورمان ميلر وفيليپ روث، الذين «لم يظهروا اهتمامًا كبيرًا بأثر الهولوكوست».

كما أن الانتماء القوي للمحرقة ميز وأضعف الكثير من الصحافة الأميركية حول إسرائيل. والأهم من ذلك أن دين المحرقة السياسي العلماني والإفراط في التماهي مع إسرائيل منذ سبعينيات القرن العشرين قد شوه بشكل قاتل السياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة، الراعي الرئيسي لإسرائيل. في عام 1982، قبل وقت قصير من إصدار ريغان أمرًا صريحًا لبيغن بوقف «الهولوكوست» في لبنان، التقى سيناتور أميركي شاب كان يقدس إيلي ڤيزل باعتباره معلمه العظيم، برئيس الوزراء الإسرائيلي. وفي رواية بيغن المصدومة عن اللقاء، أثنى السيناتور على المجهود الحربي الإسرائيلي وتفاخر بأنه كان سيفعل أكثر منهم، حتى لو عنى ذلك قتل النساء والأطفال. لقد تفاجأ بيغن نفسه بكلمات الرئيس الأميركي المستقبلي، جو بايدن. وأصر قائلًا: «لا يا سيدي. وفقا لقيمنا، يحظر إيذاء النساء والأطفال، حتى في الحرب... هذا هو معيار الحضارة الإنسانية، وهو عدم إيذاء المدنيين».

لقد جعلت فترة السلام النسبي الطويلة معظمنا غافلين عن الكوارث التي سبقتها. لا يستطيع إلا عدد قليل من الناس على قيد الحياة اليوم أن يتذكروا تجربة الحرب الشاملة التي ميزت النصف الأول من القرن العشرين، والصراعات الإمپريالية والوطنية داخل أوروبا وخارجها، والتعبئة الجماهيرية الإيديولوجية، وانفجارات الفاشية والنزعة العسكرية. لقد كشف ما يقرب من نصف قرن من الصراعات الأكثر وحشية وأكبر الانهيارات الأخلاقية في التاريخ عن أخطار عالم لا توجد فيه قيود دينية أو أخلاقية على ما يمكن للبشر أن يفعلوه أو يجرؤوا على فعله. إن العقل العلماني والعلم الحديث، اللذين حلا محل الدين التقليدي، لم يكشفا فقط عن عجزهما عن تشريع السلوك البشري، بل إنهم صاروا متورطين في أساليب الذبح الجديدة والفعالة التي ظهرت في أوشڤيتز وهيروشيما.

وأصبح من الممكن، في عقود إعادة الإعمار التي أعقبت عام 1945، ببطء الإيمان مرة أخرى بمفهوم المجتمع الحديث، وبمؤسساته باعتبارها قوة حضارية لا خلاف عليها، وبقوانينه وسيلةً للدفاع ضد المشاعر الشريرة. وقد كُرِّس هذا الاعتقاد المبدئي وتأكيده من خلال اللاهوت العلماني السلبي المستمد من كشف الجرائم النازية: لن تتكرر أبدًا. لقد اكتسبت الضرورة الحتمية في فترة ما بعد الحرب شكلًا مؤسسيًا تدريجيًا مع إنشاء منظمات مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان اليقظة مثل منظمة العفو الدولية أو هيومن رايتس ووتش. إن الوثيقة الرئيسة لسنوات ما بعد الحرب، وهي ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، كانت مليئة بالخوف من تكرار ماضي أوروبا المتمثل في الإبادة العرقية. ومع تلاشي التصورات الطوباوية لنظام اجتماعي واقتصادي في العقود الأخيرة، أفضل، اُستُمِدت المثل الأعلى لحقوق الإنسان المزيد من السلطة من ذكريات الشر الأعظم الذي ارتٌكب في أثناء المحرقة.

من الإسبان الذين يناضلون من أجل العدالة التعويضية بعد سنوات طويلة من الدكتاتوريات المتوحشة، ومرورًا بشعوب أميركا اللاتينية التي ناضلت من أجل مفقوديها[10]، والبوسنيين الذين يطالبون بالحماية من التطهير العرقي الصربي، إلى المناشدة الكورية لإنصاف «نساء المتعة» اللاتي استعبدهن اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية، فإن ذكريات معاناة اليهود على أيدي النازيين هي الأساس الذي بنيت عليه معظم أوصاف الإيديولوجية المتطرفة والفظائع، ومعظم المطالبات بالاعتراف والتعويضات.

وقد ساعدت هذه الذكريات في تحديد مفاهيم المسؤولية والذنب الجماعي والجرائم ضد الإنسانية. صحيح أنهم تعرضوا للإساءة بشكل مستمر من قبل دعاة الإنسانية العسكرية، الذين اختزلوا حقوق الإنسان في الحق في عدم التعرض للقتل بوحشية. وتتكاثر السينيكية بشكل أسرع عندما تصبح الأساليب التقليدية لإحياء ذكرى المحرقة، مثل الرحلات المهيبة إلى أوشڤيتز والمتبوعة بصورٍ حميمة مع نتنياهو في القدس، هي الثمن الرخيص لتذكرة الاحترام بالنسبة للساسة المعادين للسامية، والمحرضين المعادين للإسلام، وإيلون ماسك. أو عندما يمنح نتنياهو صكوك عفو أخلاقي مقابل حصولهِ على دعم السياسيين المعادين للسامية بشكل صريح في أوروبا الشرقية والذين يسعون باستمرار إلى إعادة تأهيل الجلادين المحليين لليهود في أثناء المحرقة. ومع ذلك، وفي غياب أي شيء أكثر فعالية، فإن المحرقة تظل لا غنى عنها كمعيار لقياس الصحة السياسية والأخلاقية للمجتمعات، إلا إن ذاكرتها، على الرغم من أنها عرضة لإساءة استخدامها، ما يزال من الممكن استخدامها لكشف المزيد من الآثام الخبيثة. عندما أنظر إلى كتاباتي عن معجبي هتلر المناهضين للمسلمين وتأثيرهم الخبيث على الهند اليوم، يذهلني عدد المرات التي استشهدت فيها بالتجربة اليهودية في التحيز للتحذير من الهمجية التي تصبح ممكنة عندما يتم كسر بعض المحرمات.

كل هذه النقاط المرجعية العالمية، المحرقة كمقياس لجميع الجرائم، واللاسامية باعتبارها الشكل الأكثر فتكًا من التعصب، معرضة لخطر الاختفاء عندما يرتكب الجيش الإسرائيلي مذابح ويجوع الفلسطينيين، ويدمر منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومساجدهم وكنائسهم، ويقصفهم ويقسمهم إلى مخيمات أصغر فأصغر، بينما تدين كل من يتوسل إليها لوقف إطلاق النار بمعاداة السامية أو أنهم يدعمون حماس، مثل الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وحكومات إسبانيا وإيرلندا والبرازيل وجنوب إفريقيا والڤاتيكان. وتقوم إسرائيل اليوم بنسف صرح المعايير العالمية الذي بُني بعد عام 1945، والذي ظل يترنح منذ الحرب الكارثية «على الإرهاب» التي لم يُعاقب عليها الأحد، والحرب الانتقامية التي شنها ڤلاديمير پوتن في أوكرانيا. إن القطيعة العميقة التي نشعر بها اليوم بين الماضي والحاضر هي قطيعة في التاريخ الأخلاقي للعالم منذ نقطة الصفر في عام 1945، التاريخ الذي كانت فيه المحرقة لسنوات عديدة الحدث المركزي والمرجع العالمي.

توجد أمامنا الكثير من الزلازل المقبلة. وقد قرر السياسيون الإسرائيليون منع قيام دولة فلسطينية. ووفقا لاستطلاع للرأي أجري مؤخرًا، فإن الأغلبية المطلقة (88 في المئة) من اليهود الإسرائيليين تعتقد أن حجم الضحايا الفلسطينيين له ما يبرره. وتمنع الحكومة الإسرائيلية وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة. ويعترف بايدن الآن بأن أتباعه الإسرائيليين مذنبون بارتكاب «لقصف العشوائي»، لكنه يعطيهم لا إراديًا المزيد من المعدات العسكرية. استهزأت الولايات المتحدة في 20 فبراير/شباط للمرة الثالثة في الأمم المتحدة بمعظم رغبات العالم اليائسة في إنهاء حمام الدم في قطاع غزة. وفي 26 فبراير/شباط، شارك بايدن خيالاته وأحلامه حول وقفٍ مؤقت لإطلاق النار، بينما كان يلعق الآيس كريم، والذي سرعان ما نفته إسرائيل وحماس. ويبحث الساسة من حزب العمال والمحافظين في المملكة المتحدة عن صيغ لفظية قادرة على استرضاء الرأي العام في حين توفر الغطاء الأخلاقي للمذبحة في قطاع غزّة. لا يبدو الأمر قابلًا للتصديق، ولكن الأدلة أصبحت دامغة: فنحن نشهد نوعًا من الانهيار في العالم الحر.

وأصبحت غزة وفي الوقت نفسه بالنسبة لعدد لا يحصى من الضعفاء الشرط الأساسي للوعي السياسي والأخلاقي في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما كانت الحرب العالمية الأولى لجيل كامل في الغرب. ويبدو على نحو متزايد أن أولئك الذين هزتهم كارثة قطاع غزّة هم وحدهم القادرون على إنقاذ المحرقة من نتنياهو وبايدن وشولتز وسوناك وإعادة تعميم أهميتها الأخلاقية، وهو الأمر الوحيد القادر على استعادة ما أسماه أميري بتوازن الأخلاق العالمية. العديد من المتظاهرين الذين يملؤون شوارع مدنهم أسبوعًا بعد أسبوع ليس لديهم أي علاقة مباشرة بالماضي الأوروبي للمحرقة، ويحاكمون إسرائيل بناءً على إجرامها في قطاع غزّة، وليس من خلال مطالبتها بالأمن الكامل والدائم، عبر استخدام المحرقة. وسواء كانوا على علم بالمحرقة أم لا، فإنهم يرفضون الدرس الدارويني الاجتماعي الفج الذي تستخلصه إسرائيل منها: بقاء مجموعة من الناس على حساب مجموعة أخرى. إنهم مدفوعون بالرغبة البسيطة في التمسك بالمُثل التي بدت مرغوبة عالميًا بعد عام 1945: احترام الحرية، والتسامح مع اختلاف المعتقدات وأساليب الحياة، والتضامن مع المعاناة الإنسانية، والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضعفاء والمضطهدين. يعرف هؤلاء الرجال والنساء أن الدرس الذي يمكن استخلاصه من المحرقة يتمثل في شعار النشطاء الشباب الشجعان من منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace «لن تتكرر أبدًا، مع أي أحد».

ومن الممكن أن يخسروا. ولعل إسرائيل، بذهانها المتمثل في البقاء، ليست «البقايا المريرة» كما وصفها جورج شتاينر، بل إنها تمثل نذيرًا لنا حول مستقبل عالمنا المفلس والمنهك. إن التأييد الكامل لإسرائيل من قبل شخصيات يمينية متطرفة مثل خاڤيير مايلي من الأرجنتين وجايير بولسونارو من البرازيل ورعايتها من قبل البلدان التي أصاب فيها القوميون البيض الحياة السياسية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، يشير إلى أن عالم الحقوق الفردية والحدود المفتوحة والقانون الدولي آخذ في التراجع. ومن الممكن أن تنجح إسرائيل في التطهير العرقي في قطاع غزّة، وحتى في الضفة الغربية أيضًا. توجد الكثير من الأدلة على أن ميزان العالم الأخلاقي لا يميل نحو العدالة، وأنه يمكن للبشرِ الأقوياء أن يجعلوا مذابحهم تبدو ضرورية وصالحة. ليس من الصعب على الإطلاق أن نتصور نهاية منتصرة للهجوم الإسرائيلي.

الخوف من الهزيمة الكارثية يلقي بثقله على أذهان المتظاهرين الذين يعطلون خطابات حملة بايدن ويُطردون من حضوره مع جوقة أصوات تردد «أربع سنوات أخرى»[11]. إن عدم التصديق لما يرونه كل يوم في مقاطع الفيديو القادمة من قطاع غزّة والخوف من المزيد من الوحشية الجامحة يطارد هؤلاء المعارضين عبر الإنترنت الذين ينتقدون يوميًا ركائز السلطة الرابعة الغربية بسبب علاقتها الحميمة مع القوة الغاشمة. وباتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، يبدو أنهم ينتهكون عمدًا الرأي «المعتدل» و«المعقول» الذي يضع إسرائيل، وكذلك المحرقة، خارج التاريخ الحديث للتوسع العنصري. وربما لا يقنعون أحدًا في التيار السياسي الغربي المتشدد.

لكن أميري نفسه، عندما وجّه استيائه إلى الضمير البائس في عصره، «لم يكن يتحدث على الإطلاق بنية الإقناع، أنا فقط أرمي بكلمتي بشكل أعمى على الميزان، مهما كان وزنها». أعرب عن استيائه بعد أن شعر بالخداع وتخلي العالم الحر عنه «حتى تصبح الجريمة حقيقة أخلاقية بالنسبة للمجرم، ولكي يغرق في حقيقة جرائمه». ويبدو أن متهمي إسرائيل الصاخبين اليوم لا يهدفون إلى أكثر من ذلك بقليل. ضد الأعمال الوحشية والدعاية عن طريق الإغفال والتعتيم، تعلن الآن ملايين لا حصر لها، في الأماكن العامة وعلى وسائل الإعلام الرقمية، عن استيائهم الغاضب. وفي هذه العملية، فإنهم يخاطرون بإضفاء المرارة إلى حياتهم بشكل دائم، ولكن قد يكون غضبهم وحده كافيًا، في الوقت الراهن، للتخفيف من شعور الفلسطينيين بالوحدة المطلقة، ويحقق جزءًا من هدفه بتنظيف واستعادة ذكرى المحرقة.


إحالات:

[1] الشرطة السرية الألمانية وتأتي تسمية الغستابو من اختصار الاسم الألماني Geheime Staatspolizei، وكانت هي الشرطة الرسمية في ظل ألمانيا النازية وأكثرها أجهزتها شهرة وسرية – (المُترجم).

[2] استخدم الكاتب في العنوان كلمة Shoah (שואה) للإشارة إلى محرقة اليهود، وهي الكلمة العبرية المقابلة للهولوكوست. يأتي استخدام «الهولوكوست» وهي مفردة مشتقة من اللغة اليونانية القديمة وتعني التقرب بالحرق أو تقديم القربان عبر حرقهِ. استخدمت مفردة الهولوكوست في البداية ضد كل الجماعات العرقية التي حاول النازيون قتلها مثل الغجر الروم والسجناء الروس، وكانت توضع كلمة «اليهودي» بعدها للإشارة إلى محرقة اليهود، ولكنها أسقطت لاحقًا، وصار الهولوكوست يشير إلى قتل اليهود الأوروبيين. وفي اللغة العبرية الحديثة تستخدم كلمة (שואה) بمعنى الدمار أو التدمير الكارثي. في هذه الترجمة، نقلت استخدام مفردة الهولوكوست عبر النقحرة، وكتبتها كما هي «هولوكوست» في حين ترجمتُ استخدام مفردة Shoah (שואה) إلى «المحرقة» (المُترجم).

[3] يقصد الكاتب شتاينر أن الدولة القومية المدججة بالسلاح، مثل إسرائيل اليوم، تعد من البقايا المريرة والسخيفة للإرث الحربي والاستعمار الذي كان رائجًا في بداية القرن العشرين، ولا مكان له اليوم في ظل التقارب الكثيف للبشر حول العالم – (المُترجم).

[4] عمدتُ في السنوات الأخيرة إلى ترجمة مفردة Wokeness الحديثة في السياق العامي والرسمي الأميركي خصوصًا، والغربي عمومًا، إلى مفردة «الصحوة» نظرًا للمعنى السلبي الذي ارتبط بها وبتطرفها – (المُترجم).

[5] أشارت العديد من نُخب الجنوب العالمي مثل جواهر لال نهرو إلى أن محرقة اليهود وغيرهم في أوروبا تأتي ضمن استمرارية عنفية وُجّهت أولًا ضد سُكّان المستعمرات في الهند وجنوب شرق آسيا ومنطقة الشرق المتوسط والأميركيتين وخلال استعباد السود، وهو ما يرفضه العالم الغربي، لإن الاعتراف بهذا يعني بالضرورة نزع الخصوصية عمّا فعله هتلر في أوروبا، ومساواة ما فعله بما فعلته قوى الاستعمار الأوروبية والإمپريالية الأميركية لاحقًا – (المُترجم).

[6] إستراتيجية دفاعية اعتمدتها فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى تقوم على التحصينات الدفاعية الثابتة، وسُمي بذلك تيمنًا بوزير الحربية الفرنسي أندريه ماجينو – (المُترجم).

[7] ڤيشي أو حكومة ڤيشي أو فرنسا الڤيشية، وهي حكومة استبدادية تأسست في مدينة ڤيشي الفرنسية، وهي الحكومة التي تشكلت بعد هزيمة فرنسا أمام النازيين – (المُترجم).

[8] ترجم الكتاب إلى العربية نائل الطوخي تحت عنوان «الأمة والموت: صناعة الهولوكوست.. صناعة دولة اسرائيل» ونُشر عبر دار ميريت ودار الجزيرة عام 2010 – (المُترجم).

[9] مؤسسة إسرائيلية تأسست عام 1953 على "جبل هرتسل" بموجب قرار من الكنيست الإسرائيلي لتبحث في أحداث المحرقة ولتخليد ذكرى ضحاياها – (المُترجم).

[10] أو ما يعرف بالاختفاء القسري بسبب النزاعات المسلحة، ويشير الكاتب هنا إلى الحرب القذرة في الأرجنتين والمكسيك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي – (المُترجم).

[11] ظهرت في الآونة الأخير مقاطع فيديو تعرض مجموعة من المؤيدين لفلسطين الذين يقاطعون بايدن في كلماته في إطار حملته الانتخابية، ولكن سرعان ما يبدأ مجموعة من المؤيدين لبايدن بالصراخ «أربع سنوات أخرى» بصوت أعلى من صوت مؤيدي فلسطين، والتي تشير إلى أنهم سيصوتون له ليفور بولية رئاسية ثانية تستمر لأربع سنوات أخرى – (المُترجم).

التعليقات